ما يهمنا في "رحلة" بلير
هل نهتم بالضجة التي تحدث حالياً حول توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق - ومذكراته - الرحلة - ذات الـ 718 صفحة؟ الإجابة: نعم وبدون تردد.
أولاًَ: لأن ما يزال اسمها "بريطانيا العظمى" كانت ولا تزال قوة مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط وسياساته، قبل إعلان "وعد بلفور" في 1917 الذي أسس قانونياً لإنشاء إسرائيل، ثم يستمر هذا النفوذ السياسي البريطاني من صفقات الأسلحة إلى الصفقات التجارية إلى العاملين البريطانيين في دول الخليج وغيرها.
ثانياً: شخصية بلير نفسها: هو نمط معين من القيادة التي يجب دراستها وتشريحها بعمق في قاعات الدراسة، سواء في كليات إدارة الأعمال، أو كورسات العلوم السياسية أو علم النفس. هناك تساؤلات واضحة وحتى شكوك فيما يتعلق بأخلاقية هذا النمط من القيادة، كما يدل على ذلك قذفه بالبيض الفاسد أثناء محاولته تسويق "رحلته" في دبلن عاصمة أيرلندا في بداية الأسبوع، وكما يدل على الشكوك في أخلاقياته، الحملة القائمة في إلكترونيات التواصل الاجتماعي ـ الـ facebook - لوضع مذكراته ليست في أرفف الكتب المخصصة للسيرة الذاتية، ولكن "مع الكتب المخصصة للجريمة".
ولكنها أيضاً نمط قيادة ناجحة. فبلير البالغ من العمر الآن 57 عاماً، كان من أصغر رؤساء وزراء بريطانيا، حيث لم يتجاوز عمره 44 عاماً عندما بدأ هذه الرئاسة في 1997، بل إنه عندما أنجب طفله الرابع - ليو - في سنة 2000، كانت هذه هي الحالة الأولى للإنجاب من رئيس وزراء في 10 دواننج ستريت (مقر رئيس الوزراء) منذ 150 عاماً، ثم إنه رئيس الوزراء الذي احتفظ بمنصبه لمدة 10 سنوات، وهي أطول فترة في تاريخ حزب "العمال" الذي ينتمي إليه بلير. وقد بدأ نجاحه مبكراً منذ دراسته في جامعة أكسفورد وحصوله على ليسانس الحقوق في 1976 وزواجه من المحامية - شيري. ونحن نعرف أن مهنة المحاماة في بريطانيا والولايات المتحدة هي - مع الأطباء ورجال الأعمال - من أربح المهن في المجتمع.
وعند انضمامه لحزب "العمال" في نهاية دراسته، فإنه تقدم سريعاً، ليس فقط في الصعود إلى درجات هذا الحزب، ولكن أيضاً في تعديل التوجه العقائدي له، فمثلاً نحن الطلاب القادمين من العالم الثالث والذين درسوا في بريطانيا كان يستهويهم دائماً حزب "العمال" بتوجهاته "اليسارية" التحررية ومعاداة الاستعمار ونقد سياسات الإمبراطورية البريطانية.
ولكن توني بلير قام بتوجيه حزب "العمال" ناحية "اليمين" وعند قراءة خطبه وتصريحاته في منتصف التسعينيات عندما كان يستعد للمنافسة على رئاسة الحزب ورئاسة الوزراء نجد ابتعاداً كبيراً عن السياسات الاقتصادية القريبة من الاشتراكية التي تميز بها حزب "العمال"، بل وتأييداً صريحاً لأهمية قوى السوق، ومن بعض قراراته أثناء رئاسة الوزراء المزيد من القوة التي أعطاها للشرطة وإعادة تعريف الجنح التي تستلزم القبض الفوري. هو إذن رئيس وزراء من حزب "العمال"، ولكن بنمط جديد يميني نسبياً يعكس أفكار بلير. بل إن البعض اتهمه أثناء رئاسة الوزارة على أنه يتصرف كرئيس جمهورية مسيطر وليس كمشارك في وزارة مع مجموعة يجب التشاور معها.
ثالثاً: هذا المزيج الغريب من الشكوك الأخلاقية والنجاح في القيادة، لا يزال يلازم بلير بعد تركه الوزارة، وهذا يهمنا جداً في المنطقة العربية لأنه ممثل الرباعية الدولية (الأمم المتحدة، روسيا، الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة)، فيما يتعلق بأزمة الشرق الأوسط. فهناك اتهام له بأنه من مؤيدي إسرائيل، وبالفعل كان في مجموعة "أصدقاء إسرائيل" في داخل حزب "العمال"، كما أنه كان وثيق الصلة بسياسات بوش حتى أن زعيم جنوب أفريقيا مانديلا وصفه بأنه "وزير خارجية أميركا". وفي الواقع فإن المعارضة ضده في بريطانيا تتهمه بتوريط بلده في غزو العراق والكذب - تماماً مثل الاتهامات الموجهة لبوش.
ولكن الشيء الأهم هو هذا التعارض بين فشل بلير كممثل للرباعية لأكثر من عامين ونجاحه المذهل في تراكم الغنى منذ تركه رئاسة الوزارة. فليس هناك أية نتيجة بالمرة لعمله في المنطقة، حتى أنه لم يتقدم بأي نقد لإسرائيل أثناء حربها ضد "حزب الله" في سنة 2006 أو "حماس" سنة 2008، بينما تراكمت ثروته ليبلغ المعروف عنها أكثر من 35 مليون دولار في أقل من ثلاثة أعوام. الجزء الأكبر منها صفقات واستشارات معلنة أو غير معلنة، وبعضها مع الدول العربية مثل التقرير الذي قدمه عن "مستقبل الكويت" في هذا العام والذي حصل بمقتضاه على مليون جنيه استرليني، طبقاً لصحيفة الرأي الكويتية، السؤال إذن: هل نستمر في التغاضي عن تقاعس عمله في الرباعية ونستمر أيضاً في تمويل استشاراته وزيادة ثروته؟