كان وزيراً للشؤون الخارجية في حكومة الظل، ثم رئيساً للوزراء، والآن أصبح وزيراً للخارجية في حكومة ترأسها نائبته التي أطاحت به في انقلاب مفاجئ قبل ثلاثة أشهر من الآن. إنه كيفين رود الذي تولى، أول أمس السبت، حقيبة الخارجية في الحكومة الأسترالية الجديدة برئاسة جوليا غيلارد. لا شيء في ذلك يثير استغراب العارفين بشخصية رود ومساره السياسي؛ فهو رجل المفاجآت والمواقف غير المتوقعة. وكان خروجه من رئاسة الحكومة والحزب الحاكم، في يونيو الماضي، تطوراً دراماتيكياً غير متوقع، لكنه أيضاً فاجأ الكثيرين بحضوره حفل تنصيب غيلارد المنقلبة عليه! ولد كيفين رود عام 1957 في مدينة "نامبور" بولاية كوينسلاند، لأبوين ممرضين، وأنهى دراسته الابتدائية ثم الثانوية بتفوق في عام 1974، ليلتحق بالجامعة الوطنية الأسترالية حيث حصل على البكالوريوس في الفنون، ثم في لغة الماندرين الصينية عام 1981. وقبل ذلك، حين كان في الحادية عشرة من عمره، توفي والده في حادث سير، فبدأ يتعرض لمصاعب حياتية، واضطر إلى السكن في سيارة لبعض الوقت، كما عمل في إحدى المجلات السياسية كي يؤمن مصروفه اليومي. وكان لموت والده، عضو "الحزب الوطني الأسترالي"، ثم حياة الفقر التي عاشها من بعده، أثر كبير في تحديد خياراته السياسية؛ حيث انضم إلى "حزب العمال الأسترالي" في عام 1972، وكان عمره 15 عاماً فقط. أما على صعيد الحياة المهنية، فقد التحق رود بوزارة الخارجية عام 1981، فتنقل بين سفارتي بلده في ستوكهولم وبكين، قبل أن يعود إلى استراليا في عام 1988، حيث عُين مديراً لمكتب زعيم المعارضة العمالية في كوينسلاند، "واين غوز"، ثم أصبح مديراً لمكتب رئيس وزراء الولاية عقب فوز الحزب بانتخابات العام التالي، وبقي في ذلك المنصب حتى عينه "غوز" أميناً عاماً للحكومة عام 1992. وبعد خسارة العماليين في انتخابات عام 1995، اختارته إحدى كبريات الشركات الأسترالية مستشاراً لديها حول الشؤون الصينية، إلى أن فاز بعضوية البرلمان كنائب عن دائرة "غريفيث" في انتخابات عام 1998. ومنذئذ تنامى نفوذه في الوسط العمالي، وخاصة بعد انتخابات عام 2001، حيث عين وزيراً للشؤون الخارجية في حكومة الظل. ومن ذلك الموقع انتقد بشدة سياسات حكومة جون هوارد المؤيدة للولايات المتحدة في غزوها العراق ومشاركتها إياها في احتلاله عام 2003. وقد جعلته خبرته السياسية والبرلمانية أحد أكثر المشرعين العماليين دراية بملفات السياسة العامة، وأهلته لتولي مزيد من المسؤوليات في الحزب، حيث أصبح في يونيو 2005، وزيراً للخارجية والأمن الدولي والتجارة في حكومة الظل. ورغم ذلك فقد خالف جميع التوقعات التي رشحته لمواجهة زعيم الحزب "كيم بيزلي"، حيث رفض منافسته وصوت إلى جانبه دائماً. لكن استطلاعات الرأي أظهرت في ديسمبر 2006 أنه أصبح أكثر شعبية من بيزلي بالضعف، وأن أغلبية عمالية تريده على رأس الحزب، فكانت الانتخابات الداخلية التي فاز فيها رود بنسبة 49 في المئة، مقابل 39 في المئة لبيزلي. وفي خطابه الأول كرئيس للحزب، أعلن رود عزمه على إرساء نمط جديد في الإدارة، وقال إنه يقدم حلولا للكثير من المشكلات، لاسيما في مجالات مثل القضايا النقابية، وحرب العراق، والتغير المناخي، والنظام الفيدرالي الأسترالي، والعدالة الاجتماعية، والتنمية الصناعية. وكان التحدي الأعظم أمام رود أن يكسر احتكار الائتلاف اليميني الحاكم (الحزب الليبرالي والحزب الوطني)، والقائم منذ 16 عاماً تولى خلالها جون هوارد رئاسة الحكومة الفيدرالية أربع مرات متتالية، مستفيداً من زيادة النمو الاقتصادي وتراجع معدلات البطالة. وبالفعل استطاع بعد 11 شهراً من قيادة حزبه، أن يأخذه إلى فوز تاريخي في انتخابات نوفمبر 2007، فأدى اليمين الدستورية أمام الحاكم العام ميتشيل جيفري، بوصفه رئيس الوزراء السادس والعشرين لأستراليا، والثاني من كيونسلاند. وعلى الفور بدأت حكومته التعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية وفق برنامج للنمو الاقتصادي؛ استطاعت تجاوز الركود، وتحقيق فائض في الميزانية، كما باشرت حكومته أيضاً إجراء إصلاحات في النظامين الصحي والتعليمي، وقامت بسحب جنودها البالغ عددهم 1600 عسكري من العراق. وحققت شعبية رود أرقاماً قياسية في عام 2009، لكن منذ مطلع عام 2010، وعقب الحقن المالية الحكومية لتحفيز الاقتصاد، بدأت خياراته تثير غضب العماليين؛ لاسيما تقاعسه عن توقيع بروتوكو كيوتو الذي ظلت الحكومات اليمينية الأسترالية السابقة ترفض توقيعه متبنية الموقف الأميركي، وكذلك تخليه عن فرض ضريبة جديدة على الأرباح الطائلة لشركات التعدين... علاوة على صعود شعبية نائبته في رئاسة الحزب والحكومة، غيلارد التي بات ينظر إليها في البرلمان ووسائل الإعلام على أنها واحدة من أساتذة الأداء الحكومي. وبعد مجموعة من التحولات في مواقف رود، وإثر انخفاض واضح في شعبيته، أصبح بالنسبة لكثير من رفاقه العماليين أوتوقراطياً أكثر من اللازم، وغير قادر على التواصل مع الحركات النقابية... فبدأ كبار القادة في الحزب التحرك لاستبداله بنائبته. وبعد عامين وسبعة أشهر مرت عليه كرئيس للوزراء، اضطر رود لتقديم استقالته يوم 24 يونيو 2010، مستبقاً بذلك تصويتاً داخلياً دعت إليه غيلارد قبل أن تحل محله لتصبح أول امرأة تتولى ذلك المنصب في أستراليا. وتأتي عودة رود اليوم كوزير في حكومة ترأسها غيلارد، دلالة على أن الأخيرة لم تحد خلال الشهور الثلاثة المنقضية من حكمها، لاسيما في الشأن الخارجي، عن الخطوط العامة للسياسة العمالية كما رسمها رود في مستهل فترته. بل تعني هذه العودة اعترافاً ضمنياً بالخسارة التي تكبدها الحزب في انتخابات أغسطس النيابية الأخيرة، حيث فقد 16 من مقاعده في البرلمان ليتعادل مع "الحزب الليبرالي". وإلى ذلك فحزب العمال بحاجة إلى تجاوز الجراح والشروخ التي أحدثتها الإطاحة الدراماتيكية برئيسه السابق رود، وهو رجل المفاجآت الذي قد يقبل مصالحات غير متوقعة، لاسيما إذا كانت تحفظ ليسار الوسط الأسترالي مصالحه، وقد تضررت في غيابه "القسري" والمثير، وإن كان غياباً وجيزاً! محمد ولد المنى