نشرت الصحف في السابع من الشهر الجاري تقارير عن نتائج الزيارة التي قام بها إيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي لروسيا واجتمع خلالها بنظيره الروسي أناتولي سيرديوكوف فضلاً عن رئيس الوزراء بوتين. وعندما يقرأ المرء هذه التقارير يستشعر المخاطر المترتبة على هذه الزيارة، ودروسها الواضحة، غير أننا قبل أن نعرض لهذا وذاك يحسن أن نلقي نظرة على تطور العلاقات الإسرائيلية- الروسية (والسوفييتية قبل ذلك) لكي نستطيع أن نحدد موقع هذه الزيارة في النموذج العام لهذا التطور. لم تستقر العلاقات الإسرائيلية- السوفييتية يوماً على وضع تعاوني اللهم إلا وقتاً وجيزاً منذ موافقة الاتحاد السوفييتي على قرار تقسيم فلسطين في 1947، واعترافه السريـع بإسرائيل لدى نشأتها في عام 1948. وقد نجحت الحركة الصهيونية آنذاك فيما يبدو في إقناع القيادة السوفييتية بأن إسرائيل "حديثة" و"غير تابعة للغرب" وذات نظام حكم يمثل فيه الاشتراكيون الديمقراطيون (الممثلون في حزب العمل) القوة السائدة خير لهم ألف مرة من العرب الذين لا ينطبق على بلادهم أي من هذه الصفات، وذلك على رغم أن الموقف السوفييتي تجاه الحركة الصهيونية منذ نشأتها كان معاديّاً على طول الخط، حيث كانت القيادة السوفييتية تعتبر أن الحركة تسحب الشرعية من منطق العمل الشيوعي طالما أن الحركة الصهيونية تبني الانتماء على أساس الدين فيما بُني الاتحاد السوفييتي على التصنيف الاجتماعي (يا عمال العالم اتحدوا)، غير أن الجهد الصهيوني كما سبقت الإشارة نجح في أن ينتزع تلك القرارات السوفييتية المصيرية بالموافقة على تقسيم فلسطين، والاعتراف بدولة إسرائيل عامي 1947 و1948. لكن الاتحاد السوفييتي سرعان ما اكتشف الخديعة، وأن إسرائيل ليست سوى وزن مضاف للثقل الرأسمالي الغربي في الشرق الأوسط، ناهيك عما تبين من أن نشأتها بدأت تثير قلاقل لدى اليهود السوفييت الذين ثمنوا عاليّاً فكرة الدولة اليهودية، ولذلك توترت العلاقات السوفييتية- الإسرائيلية ووصلت إلى حد القطيعة بعد عامين فحسب من نشأة دولة إسرائيل. وهكذا فإن التدهور في هذه العلاقات لم يكن بسبب التطورات الإيجابية التي شهدتها العلاقات العربية- السوفييتية في مرحلة المد القومي اعتباراً من منتصف خمسينيات القرن الماضي، وإنما كان سابقاً عليها، وإن جاءت تلك التطورات لتزيد الأمور سوءاً في علاقة إسرائيل بالاتحاد السوفييتي، وكان العدوان الثلاثي على مصر في 1956 الذي تواطأت فيه إسرائيل مع بريطانيا وفرنسا، مناسبة واضحة لبيان المدى الذي وصل إليه هذا التدهور عندما وجه السوفييت إنذارهم الشهير الذي أشار للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ العلاقات السوفييتية- الإسرائيلية إلى أن الفعل الإسرائيلي يهدد بقاء الدولة اليهودية نفسها، وكذلك أدى العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في 1967 إلى قطع الاتحاد السوفييتي علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل. ولكن الانفراج الذي شهدته العلاقات الأميركية- السوفييتية في مطلع سبعينيات القرن الماضي جاء في بعض نتائجه لصالح إسرائيل، فقد أصبحت القدرة السوفييتية على تقييد الهجرة اليهودية إلى إسرائيل محدودة للغاية، وزادت سياسات جورباتشوف الذي وصل إلى سدة القيادة السوفييتية في 1985 الأمور سوءاً، حيث تدفق المزيد من موجات هذه الهجرة التي زودت إسرائيل بمدد بشري هائل بالنسبة لعدد سكانها مثّلَ لها إضافة استراتيجية لا ريب فيها يظهرها الثقل الانتخابي الراهن لحزب "إسرائيل بيتنا" الذي يعتمد على قاعدة من المهاجرين الروس، ويمثل ركناً أساسيّاً في الائتلاف الحكومي الراهن. وبعد أن تفكك الاتحاد السوفييتي في 1991 أصبحت روسيا نفسها رهينة في الأيدي الغربية، ولذلك كان منطقيّاً أن تطبع العلاقات مع إسرائيل تماماً، وعندما استردت روسيا استقلالها الفعلي منذ تولى بوتين الحكم انتعشت الآمال في أن يعاد بناء العلاقات العربية- الروسية، وأذكر أنني حذرت آنذاك على هذه الصفحة من أن الأمور قد اختلفت ولم تعد بهذه البساطة، وإن كان استقلال روسيا في سياستها الخارجية يبقى أفضل من تبعيتها بطبيعة الحال. في هذا السياق دشنت زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي الأخيرة لروسيا، التي تمخضت عن نتائج في منتهى الأهمية، مرحلة جديدة من التعاون العسكري بين البلدين، كما يظهر ذلك الاتفاق الذي يعد الأول من نوعه في تاريخ العلاقات بينهما، وقد تضمن هذا الاتفاق أساساً قانونيّاً لتعزيز التعاون العسكري وفَتحَ آفاقاً جديدة في هذا الصدد. يذكر أن التعاون العسكري بين البلدين لم يبدأ بهذا الاتفاق إذ شهدت السنوات الأخيرة استيراد روسيا لتقنيات إسرائيلية دقيقة لإضافتها إلى المقاتلات العسكرية التي تصنعها روسيا، وشراء آليات وأسلحة إسرائيلية خفيفة. ولكن الاتفاق الجديد يفتح آفاق التصنيع العسكري المشترك والتعاون لكسب أسواق جديدة، ويوفر أرضية واسعة لتبادل المعلومات والخبرات، والأخطر من ذلك ما قيل نقلاً عن أحد الخبراء الروس من أنه ليس مستبعدًا أن يفتح الاتفاق مجالات أخرى للتنسيق بين البلدين، ومن ذلك تقديم ضمانات روسية لإسرائيل بشأن عدم وصول أسلحة روسية الصنع إلى جهات تعادي إسرائيل. ومن المهم هنا أن طرفي الاتفاق أظهرا عجلة في تطبيقه، فتم توقيع عقد شراء 12 طائرة تجسس إسرائيلية الصنع من دون طيار، كما أعلن رئيس الوزراء الروسي بوتين في ختام مباحثاته مع باراك أن التعاون العسكري بين البلدين يسير بشكل جيد مشيراً إلى وجود مشاريع واعدة في مجال إطلاق الأقمار الاصطناعية لصالح إسرائيل، وتنفيذ مشروع مشترك بطلب من الهند. وكذلك كان موضوع مكافحة الإرهاب على جدول أعمال الوزيرين، حيث أشار الوزير الروسي إلى أن "مواقفنا حيال العديد من تحديات العصر متقاربة، بل هي متطابقة، خصوصاً ما يتعلق بقضايا الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل"(!) وهو ما يشير إلى أن إسرائيل قد أقنعت المسؤولين الروس بما سبق وأن أقنع به شارون الرئيس الأميركي السابق بوش من تطابق بين حربه على الإرهاب مع الحرب الإسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية، ولاسيما أن الروس يواجهون تحديات حقيقية في بعض الجمهوريات الإسلامية المتمتعة بالحكم الذاتي داخل دولتهم. وكذلك يشير هذا التصريح إلى أن الملف النووي الإيراني كان بدوره على جدول الأعمال مما يدل على المدى الذي وصل إليه التوافق الروسي- الإسرائيلي حيث يسمح مسؤول روسي له وزنه لنفسه بأن يتحدث عن موقف إسرائيل تجاه "انتشار أسلحة الدمار الشامل" وهي أول من انتهكت مبدأ عدم الانتشار في منطقة الشرق الأوسط. ثمة مخاطر واضحة في كل ما سبق على الأمن العربي، لعل أوضحها أن إسرائيل قد أحكمت حصار التسلح العربي، بحيث يكون مفتاحه في الأيدي الأميركية والغربية، فبعد أن نجحت في تحييد الصين عسكريّاً في الصراع بمعنى تعهدها بعدم تزويد دول المنطقة بأسلحة تخل بميزان القوى العربي- الإسرائيلي ها هي تستكمل الحلقة بروسيا بتوقيع هذا الاتفاق. ومن المعلوم أن إسرائيل قد عارضت بشدة نية روسيا تزويد سوريا بأنظمة صاروخية بحرية يبلغ مداها 300 كم، معتبرة أن هذه الصواريخ تشكل خطراً على القوات الإسرائيلية، ناهيك عن احتمال وصولها إلى "حزب الله". أما الدروس، فإن إسرائيل لم تذهب لروسيا متسولة، أو معتمدة على التحرك الدبلوماسي فحسب، وإنما طرقت أبواب موسكو وفي جعبتها تقنيات عسكرية متطورة تستطيع أن تقدمها لروسيا لقاء تنازلات محددة، تماماً كما فعلت مع الصين من قبل. فماذا ترانا فاعلون إزاء المخاطر والدروس معاً؟