كانت مجرد فكرة شغلت العالم طوال أيام، هزته بمجرد تصور الفعل وردود الفعل. في النهاية مضت الذكرى التاسعة لتفجيرات 11 سبتمبر من دون كوارث، لكنها سلطت الضوء على واقع أن الإرهاب أنواع، قد يأتي مع انتحاري أو أي فرد مهووس، أو حتى مع جماعة لا تمارس العنف بل ما هو أسوأ منه. في كل الأحوال لم يكن متوقعاً أن يُسمح لـ"حرق المصاحف" أن يحدث، كما لم يكن متوقعاً اللجوء إلى أي قمع من النوع المعروف عربيّاً، أو إلى أي تحدٍّ من النوع الذي كان سيُكسب الفكرة قوة وانتشاراً و... مزيداً من الأتباع. وما دامت دولة المؤسسات تحركت فقد أدرك صاحب "المحرقة" أنه إذا مضى في رعونته إلى أقصاها فإنه سيواجه متاعب أكبر من الشهرة التي نالها، بل حاول استثمارها لعقد صفقة: لا حرق للمصاحف ولا مسجد قريباً من موقع "جراوند زيرو" في نيويورك. الأرجح أن الفكرة انبثقت من الجدل المرير المستمر حول بناء ذلك المسجد، الذي يبدو واضحاً أنه قسَّم أميركا، حتى أن كل مشاريع المساجد الأخرى باتت تواجه اعتراضات خصوصاً في الولايات التي باتت تشكل ما يسمى "الحزام الإنجيلي". خشيت الإدارة في واشنطن إن هي تشددت أن تتسبب بتفشي الظاهرة. أصبحت الخشية الآن من المرة التالية، التي قد تحصل فجأة ومن دون إعلان مسبق، ذاك أن المناخ السياسي- الاجتماعي الموبوء ينذر بأي تطور، وفقاً لتقلبات قضية المسجد النيويوركي، فإذا شيّد في مكانه المزمع سيبدو بمثابة تحدٍّ، وإذا نقل بفعل الضغوط سيكون القانون قد انكسر. ولكن المسألة ليست مسألة مسجد، فقط، ولا تتعلق بموقعه، فقط، ولا هي استغلال سياسي على خلفية "الانتخابات النصفية"، فقط، وإنما هي استخلاص يقوم به المجتمع لكل ما اعتمل في داخله منذ هجمات 11 سبتمبر وصولاً إلى إحباطات الأزمة المالية وتداعياتها مروراً بإخفاقات حربي العراق وأفغانستان المكلفتين جدّاً. وقد يكون مشروع المسجد جاء في الوقت غير المناسب، فأميركا لم تخرج عمليّاً بعد من أوجاع الموقع "جراوند زيرو" وهواجسه وذكرياته، وطالما أن الأبنية البديلة من برجي مركز التجارة العالمي لم تقم حتى الآن فإن احتمال نهوض المركز الإسلامي قبلها وبالقرب منها استثار روح المكان ورمزيته. وفي مثل هذه الإشكالات، إما أن تكون الغلبة للقانون أو لما يحصل توافق عليه. ولم يبدُ حتى الآن أن سيادة القانون بددت الاعتراضات، وفي المقابل لا تبدو التوافقات متوفرة. ولاشك أن عرقلة القانون تتسبب في خسارة فادحة، قد تتبعها خسارات أخرى إذا ما أصبح شائعاً أن التلاعب بالحريات والقيم الأساسية ممكن في أميركا. وهذا يعني أن أميركا ألمـَّت بها الأمراض التي ادعت أنها تكافحها، وأنها أصيبت بشيء من "الأفغنة" و"العرقنة" وما إليهما. وحين ظهر أصحاب فكرة "حرق المصاحف" بمسدساتهم في مدينة غينزفيل، قد يكونون تحسبوا لانتقامات محتملة، إلا أنهم سجلوا عودة إلى حالة "كاوبوية" مؤدلجة بـ"العين بالعين والسن بالسن"، وبـ"إما معنا وإما ضدنا". ولم يكن بسيطاً بلا مغزى أن يضطر الرئيس الأميركي لأن يخاطب مواطنيه بصفة "القائد الأعلى للقوات المسلحة"، وأن يضطر تاليّاً للعودة إلى شعار "لسنا في حرب على الإسلام" الذي رفعه سلفه بوش. ففي ذلك دلالة إلى أنه استشعر خطراً داخليّاً عميقاً، أولاً لأن قيم التسامح والحرية الدينية تهددت واقتربت من هزّ الأسس الدستورية للدولة العظمى، وثانيّاً لأن عملاً غبيّاً يمكن أن يقدم عليه بضعة أفراد قد يتسبب في إراقة دماء أميركيين وغير أميركيين. فمجرد "حرق المصاحف" يعني، على الأقل، أن كل استراتيجية في أفغانستان باتت فاقدة المعنى. وكذلك، لم يكن بسيطاً أيضاً أن نسمع فجأة، مثلاً، أن الأنتربول اعتبر نفسه معنيّاً بـ"محرقة" المصاحف. طبعاً، بقيت المسألة نظرية، لكن ترجمتها عمليّاً أن البوليس الدولي رصد جريمة معلنة قبل حدوثها، وأنها إذا نفذت ستضع مواطنين أميركيين تحت الملاحقة، بناء على شكوى يمكن أن تقدمها أي دولة.... بقي أن يفهم الساسة الأميركيون الذين نفخوا في النار الداخلية أنها يمكن أن تحرق أصابعهم أيضاً.