أكتب هذه المقالة صبيحة يوم الحادي عشر من سبتمبر، وهذا القس الذي يحمل أطناناً من الكراهية والغل تجاه الإسلام وقد أعمى الحقد قلبه، مالئ الدنيا وشاغلها بتهديداته بحرق نسخ من كتاب الله عز وجل! لا خوف على كتاب الله وعلى دين الإسلام، فالله عز وجل حافظ كتابه وناصر دينه، والإسلام يجتذب كل يوم أفئدة وعقولاً في أميركا والغرب وعبر العالم الواسع بخصائصه الذاتية وبقواه الذاتية. لكن للمرء أن يتساءل مستنكراً: لماذا يختار هذا القس المتطرف يوماً حزيناً للأميركيين للإساءة إلى أكثر من مليار مسلم. تسع سنوات مرت وحصلت فيها أحداث جسام وتبرأ المسلمون من الفعلة وهم الذين تضرروا من أعمال هؤلاء المتطرفين بأكثر من الأميركيين والغربيين بدليل التفجيرات الإرهابية التي يذهب ضحاياها من المسلمين كل يوم، ومع ذلك لم تفلح في معالجة هذه النفسية غير السوية. ألا يخشى هذا القس أن يخسف الله به؟! دعونا بعد هذه السنوات التسع التي مرت على الكارثة المأساوية لأحداث 9/11 نستخلص بعض الدروس والعبر لعلها تفيد مجتمعاتنا وتقويها أمام غزو الفكر المتطرف وتزيد من مناعتها التحصينية. أول هذه الدروس أن العمل الإرهابي أساسه فكر متطرف كاره للحياة والأحياء تمكن من نفسية قلقة متوترة بسبب عوامل متعددة، أبرزها: تنشئة غير سوية نتيجة تفكك أسري وأبوين منشغلين عن وظيفتهما الأساسية وهي التربية الحسنة. هذه المرحلة العمرية المبكرة (5 سنوات) هي أخطر المراحل في حياة الطفل تتم فيها "البرمجة" الأساسية للطفل، ثم يأتي دور المدرسة والمنهج الدراسي والمعلم والنشاطات اللاصفية، فإذا كان المنهج غير منفتح على الثقافات الإنسانية وحب الحياة وحب الناس والابتهاج بالنعم وعدم الضيق بالاختلاف وقبول الآخر بغض النظر عن دينه وجنسه، وإذا كان المعلم متشدداً يخطف المنهج فيزيده بؤساً، وإذا كانت النشاطات اللاصفية لا تنمي مهارات حياتية نافعة، فإن المتلقي لن يكون فرداً إيجابياً يخدم مجتمعه ووطنه ودينه. وللخطاب الديني عبر المنابر والقنوات والمواقع دوره في الوقاية والتحصين من الفكر العدواني فإذا لم يُرشّد ولم يتجدد ولم يُخصّب بمفاهيم التسامح والعدل والوسطية، انقلب إلى خطاب تحريضي يدفع الشباب إلى مهاوي الهلاك ويحوّلهم إلي قنابل بشرية وأحزمة ناسفة. وللبيئة المجتمعية دورها المؤثر، فإذا كانت متقبلة لثقافة العنف والتعصب والتكفير ومصادرة الفكر والضيق بالحريات والإبداع، فإن هذا لن يساعد على تنشئة الأفراد تنشئة صحية سليمة. وثاني الدروس: أن علينا تبني منهج النقد الفكري لكافة المنظومات الثقافية والاجتماعية والإعلامية والدينية والتي تشكل "ثقافة المجتمع"، منهج النقد هو الآلية الذاتية التي تحمي المجتمع من الانزلاقات الخطرة، سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، لذلك علينا مواجهة أنفسنا ومراجعة أفكارنا ومواقفنا وسلوكياتنا على امتداد عقود من الزمن، رفعنا فيها شعارات براقة لكن لا مضامين حقيقية لها، صفقنا لحاملي هذه الشعارات ومجدناهم وسرنا وراءهم -غير مبصرين- فقادونا إلى المهالك، وما نحن فيه اليوم من أوضاع هي الثمار المرة لتغييب المنهج النقدي الحارس للمجتمع. هؤلاء الشباب الذين أصبحوا قنابل موقوتة ضد مجتمعاتهم، هم أبناؤنا الذين لم نحسن تربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم، شربوا من ينابيع مسمومة، في تعليم لقنهم أن الماضي كان زاهراً سعيداً حافلاً بالأمجاد ويجب استعادته، وفي تربية غير متوازنة، وفي خطاب ديني تحريضي، وفي تثقيف صوّرَ العالم تآمراً على المسلمين، وفي خطاب أيديولوجي متحامل على الأنظمة العربية. نحن بحاجة إلى ترويج وترسيخ "ثقافة نقد الذات" في البنية المجتمعية، في البيت، في المدرسة، في الجامعة، وفي كافة المؤسسات التي تصوغ الثقافة العامة. لقد كان من نتائج تغييب أو تهميش ثقافة نقد الذات أن أخفقت كافة المشاريع العربية الكبرى للنهوض والتقدم سواء تلك التي حملها الاتجاه القومي أو اليساري أو الديني، وكان -أيضاً- من نتائجه: أننا لم نستفد من الدروس والتجارب السابقة فكررنا الأخطاء والتجارب الفاشلة وأصبحنا أمة لا تتعلم من إخفاقاتها وتجاربها، مع أن منهج نقد الذات من أساسيات ديننا كما يتمثل في "النفس اللوامة". ومن لوازم "التوبة". يفسر الدكتور وحيد عبدالمجيد غياب منهج النقد بأن المشروع القومي واليساري والديني استمد شرعيته من ثقافة "المواجهة" لا "البناء"، وذلك داء يجب التخلص منه إذا أردنا تغيير الأوضاع وما في الأنفس. وثالث هذه الدروس: تفعيل ثقافة الحوار، فالله سبحانه وتعالى خلق البشر مختلفين في أفكارهم وتصوراتهم وطباعهم وأديانهم ولغاتهم، والاختلاف حقيقة أساسية في الحياة اقتضته حكمة الباري عز وجل للعديد من الحِكم التي تضمن إثراء الحياة وعمارة الأرض وبهجة التنوع ورحم التعددية، والله سبحانه وتعالى يمتن علينا في القرآن الكريم بأنه خلق البشر مختلفين وأنه سبحانه هو الذي يحكم بينهم يوم القيامة، ومعنى ذلك أن على المسلمين نبذ فكر الإقصاء وترسيخ ثقافة الاختلاف فلا يحق لأحد أن يفرض رأيه أو معتقده الديني أو السياسي على الآخر بحجة أنه يملك الحقيقة أو الصواب المطلق، كما لا يجوز لطائفة من المسلمين أن تدعي بأنها "الفِرقة الناجية" وأن الفرق والطوائف الأخرى الإسلامية ضالة ومبتدعة، كما لا ينبغي لفصيل سياسي أو حزب أيديولوجي أن يدعي أن رأيه السياسي هو الرأي الوطني وأن آراء الأحزاب والجماعات الأخرى غير وطنية وغير قومية، فهذا احتكار للدين واحتكار للوطنية من غير سند صحيح. علينا أن نوقن ونعلم أولادنا أنه لا احتكار للدين ولا الوطنية فلا يجوز التفسيق والتكفير والتشكيك والتخوين والاتهام بالعمالة. ورابع هذه الدروس: أن المواجهات الأمنية الناجحة ضد الجماعات الإرهابية، وإن حمت مجتمعاتنا وأوطاننا ودفعت شرور الإرهاب، وهؤلاء الشهداء الأبطال الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل تأمين مجتمعاتهم، لهم كل التقدير والامتنان، لكن المواجهات الأمنية وحدها، لن تقضي على شرور العدوان، فلابد أن تصاحبها جهود فكرية تركز على تفكيك بنية الفكر العنيف متمثلة في منابر وقنوات ومواقع لا زالت نشطة تبث سمومها وملوثاتها في فضاء مجتمعاتنا. لقد وصفنا الله تعالى بأننا أمة تدعو للخير والمعروف ووصفنا بالوسطية، والأجدر بهذه الأمة أن تتعلم من هذه الدروس.