بعيدة هي المسافة التي تفصل بين صيغتي "القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية" و"القدس عاصمة الدولتين". لكنها ليست إلا أحد تجليات الفرق بين المثال والواقع، وبين معايير الحق والشرعية ومعطيات ميزان القوى على الأرض. لذلك كان طبيعيا أن تثير مقالة الرئيس مبارك، والتي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" بالتزامن مع إطلاق المفاوضات المباشرة في واشنطن، جدلا حول مدى دلالتها على تحول في السياسة المصرية تجاه قضية القدس. فقد حدد مبارك أسساً للتسوية من بينها أن تكون القدس عاصمة لدولتي إسرائيل وفلسطين. وبدا هذا الموقف مفاجئا، إلى حد أن وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية في مصر استبعدت عبارة "القدس عاصمة الدولتين" عندما بثت ترجمة المقالة. فقد تبنت مصر طوال الفترة الماضية الموقف العربي العام الذي يطالب بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس. غير أن هذا الموقف ظل شعاراً يُرفع في مناسبات ويُذكر في تصريحات، دون أن يكون قابلا للتداول. لذلك لم يكن له أثر في المرة الوحيدة التي أجريت فيها مباحثات تفصيلية حول قضية القدس في مفاوضات كامب ديفيد الثانية في يوليو 2000 وملحقاتها في طابا وإيلات وواشنطن في آخر العام نفسه ومطلع 2001. فقد انطلقت تلك المفاوضات من نقطة قريبة للغاية من صيغة "القدس عاصمة الدولتين"، بسبب اقتناع الرئيس الأميركي الأسبق كلينتون الذي رعى تلك المفاوضات بأن لإسرائيل حقوقاً في القدس الشرقية لاسيما في بلدتها القديمة. وتمثل هذه البلدة التي لا تتجاوز مساحتها كيلو مترا مربعا واحدا، عقدة العقد في قضية القدس. فتحمل هذه البلدة الصغيرة أثقالا هائلة، تاريخية ودينية وحضارية، لما تختزنه من رموز تختزل أكثر جوانب الصراع العربي الإسرائيلي برمته حساسية وعاطفية وأوفرها شعبية على الإطلاق. وهذا يفسر لماذا تبدو قضية الحدود في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أقل صعوبة من قضية القدس المثقلة بهذا النوع من المواريث. كما أنه يفسر لماذا لم يكن ممكناً أن تحظى صيغة "القدس عاصمة الدولتين" بأي اهتمام دولي، ولماذا رأى "الراعي" الأميركي لمفاوضات 2000 أنها لا تصلح بداية لأية عملية تفاوضية. لذلك فالمعضلة التي تواجه الفلسطينيين، والعرب عموماً، كلما أجريت مفاوضات للتسوية، هي أن صيغة "القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية" لا يمكن أن تكون مطروحة على الطاولة. فالصيغة التي يعتمدها الأميركيون باعتبارها نقطة البداية المناسبة من وجهة نظرهم، هي "القدس عاصمة الدولتين". لكن هذه الصيغة تنطوي هي نفسها على معضلة جوهرية بسبب صعوبة الوصول إلى اتفاق على أساسها إلا إذا رفع المفاوض الفلسطيني الراية البيضاء وتصرف على أساس أن أي حل هو خير من اللاحل، وأن الحصول على شيء في القدس أفضل من لا شيء. وتكمن معضلة صيغة "القدس عاصمة الدولتين" في شدة تعقيد الوضع في البلدة القديمة الصغيرة التي كانت هي القدس كلها في التاريخ حتى منتصف القرن التاسع عشر. وبخلاف صيغة "القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية"، والتي تجعل هذه البلدة بمقدساتها كافة هي العاصمة المأمولة، تقوم صيغة "القدس عاصمة الدولتين" على تقسيم السيادة والسيطرة في داخلها. ولنا أن نتخيل كيف يمكن إنجاز مثل هذا التقسيم في مساحة قزمية، وفي ظل تداخل شديد بين المطالب الفلسطينية والإسرائيلية في منطقة الحرم القدسي الشريف. لذلك أخفقت الجهود الهائلة التي بذلها كلينتون وفريقه، خلال مفاوضات 2000 -2001، في الوصول إلى اتفاق رغم إحراز تقدم محدود. فكان هناك اتفاق في نهاية المفاوضات على أن تكون للفلسطينيين سيادة كاملة على الأحياء العربية في شمال البلدة القديمة وأهمها بيت حانينا وشعفاط، وأن تكون لإسرائيل سيادة كاملة على حيي اليهود والأرمن. غير أن المعضلة التي لم تجد حلا كانت في السيادة على منطقة الحرم القدسي، وهي منطقة ضئيلة المساحة وعظيمة القيمة في آن معاً. لم يكن بإمكان المفاوض الفلسطيني قبول العرض الأميركي الابتدائي بأن تكون لدولته المنشودة سيطرة فاعلة على جزء من البلدة القديمة يشمل الحرم القدسي، لكن بدون سيادة عليها. فكان هذا يعني أن تكون السيادة عليها لإسرائيل. كما لم يكن باستطاعته قبول العرض الثاني، والذي قام على أساس تقسيم السيادة داخل البلدة القديمة، وهو أن تكون للدولة الفلسطينية سيادة على الحرم القدسي مقابل سيادة إسرائيلية على حائط البراق الذي يسميه اليهود "حائط المبكى" ويعتبرونه ضمن مقدساتهم. هذا فضلا عن صعوبة تحديد أين تنتهي السيادة الإسرائيلية على هذا الحائط الذي يدخل جزءٌ أساسيٌ منه في صلب منطقة الحرم القدسي. كما رفض المفاوض الإسرائيلي أن تكون للدولة الفلسطينية سيادة منفردة على هذا الحرم، وأثار مسألة "هيكل سليمان" الذي يزعم اليهود أنه موجود أسفله. وأدى تعقيد موضوع السيادة على الحرم القدسي حينئذ إلى شيوع رواية لم يثبت بعد ما إذا كان لها أساس فعلا، وهى حدوث تداول حول صيغة لتقسيم السيادة بشكل رأسي، بحيث تكون للدولة الفلسطينية السيادة على ما فوق الأرض ولإسرائيل السيادة على ما تحتها! وهذه صيغة شاذة، وليست فقط طريفة، لأنها تناقض القاعدة الأساسية التي قام عليها مبدأ سيادة الدول منذ ثلاثة قرون، وهي أن السيادة تكون على الأرض وأجوائها وما تحت الأرض أيضاً. فالسيادة لا يمكن أن تكون على أساس رأسي، لأن الدول يجاور بعضها بعضاً ولا يكون بعضها فوق بعض. غير أن معضلة صيغة "القدس عاصمة الدولتين" تتجاوز البلدة القديمة. فتطبيق هذه الصيغة، وفق التصور الإسرائيلي الذي تؤيده الولايات المتحدة، يعني إخضاع أكثر من نصف القدس الشرقية الموسعة للسيادة الإسرائيلية. وهذا ما يُفهم من تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي قبل ساعات من إطلاق المفاوضات المباشرة، إذ قال إن القدس الغربية و12 حياً يهودياً يقطنها مئتا ألف ستكون لإسرائيل. لذلك فإذا كانت صيغة "القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية" تبدو "مثالية"، في ظل الحقائق الراهنة وميزان القوى على الأرض، فصيغة "القدس عاصمة الدولتين" ليست أكثر واقعية حتى ولو قبلها العرب جميعاً وأبدى المفاوض الفلسطيني الحالي مرونة لا نهائية تجاهها. فهذه الصيغة، التي وصلت إلى طريق مسدود قبل نحو عشر سنوات، تتطلب أجواء في القدس والمنطقة هي تقريباً عكس ما يسودها الآن. فلا جدوى من التطلع إلى صيغة للتعايش السلمي والثقة المتبادلة في أجواء ملأتها السياسات الإسرائيلية، القائمة على العنصرية والهيمنة وفرض الأمر الواقع، كراهيةً وبغضاء واحتقاناً وتربصاً. وفي مثل هذه الأجواء، يجدر بنا في العالم العربي أن نحافظ على مواقفنا الأساسية، فلا نراجعها إلا إذا كان الطرف الآخر مستعداً لمراجعة مماثلة في مواقفه.