التحول الديموغرافي... التبعات الصحية والاقتصادية
تشهد المجتمعات البشرية منذ عدة عقود تغيرات جذرية في مكونات التركيبة السكانية من شأنها أن تجعل نمط الحياة الإنسانية خلال القرن الحالي مختلفاً عن أنماطها خلال القرون الماضية. وهذه التغيرات الديموغرافية تتمثل في ارتفاع متوسط عمر أفراد الجنس البشري، المترافق مع انخفاض ملحوظ في نسبة المواليد الجدد، وهما العاملان اللذان أديا بالتبعية إلى زيادة الحجم النسبي لشريحة المسنين داخل غالبية المجتمعات. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون فتلك التغيرات ليست مقتصرة فقط على الدول الغربية الصناعية بل إنها تشمل أيضاً معظم دول العالم تقريباً، باستثناء دول أفريقيا جنوب الصحراء التي أدى فيها وباء مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز)، بالترافق مع ميكروب السل، إلى إحداث تغير معاكس للاتجاه العالمي الديموغرافي.
وشمول تلك التغيرات للدول النامية يتضح من حقيقة أن الصين -أحد أكبر الاقتصادات النامية- يوجد فيها حاليّاً 167 مليون شخص فوق سن الستين، مع توقع ازدياد هذا العدد إلى 400 مليون -ما يعادل ربع السكان- بحلول عام 2050. وبخلاف الزيادة العددية، نجد أيضاً زيادة نسبية في حجم هذه الشريحة مقارنة بالفئات العمرية الأخرى، نتيجة لانتهاج الصين خلال العقود الثلاثة الأخيرة سياسة الطفل الواحد، التي تحمَّل وزرها سكان المناطق الحضرية بشكل أكبر، بالإضافة إلى اتجاه العائلات الصينية مؤخراً لتأخير سن الإنجاب، أو الامتناع عنه تماماً، ضمن التغيرات الاجتماعية- الاقتصادية (Socioeconomic) التي تشهدها الصين منذ سنوات، مما جعل معدل الولادات حاليّاً أقل بمقدار الثلث عما كانت عليه قبل ثلاثين عاماً.
وبخلاف أثر هذه التغيرات الديموغرافية على نسيج وديناميكيات المجتمعات البشرية نجد أن تبعاتها تمتد بشكل كبير إلى قطاع الرعاية الصحية، وإلى الجوانب الاقتصادية المختلفة، بدءاً بحجم الإنتاجية الفردية، ونهاية بالضغوط التي ستتعرض لها نظم المعاشات والتقاعد، وهي الضغوط التي تهدد بانهيار هذه النظم عما قريب في العديد من الدول، فعلى صعيد الرعاية الصحية نجد أن التقدم في السن يترافق بازدياد احتمالات الإصابة ببعض الأمراض، مثل الأمراض السرطانية، وأمراض القلب والشرايين، وخرف أو عتَه الشيخوخة، بالإضافة إلى حوادث السقوط وما ينتح عنها. وإذا نظرنا عن قرب إلى أحد تلك الأمراض كخرف أو عته الشيخوخة، فسنجد أنه في دولة كبريطانيا مثلا، سيرتفع عدد المصابين بعته الشيخوخة بحلول عام 2021 إلى 940 ألفاً، وبحلول عام 2051 سيصل عدد هؤلاء إلى أكثر من 1.7 مليون، أو ما يعادل زيادة بمقدار 154 في المئة عن العدد الحالي البالغ 700 ألف شخص. وبناء على أن عته الشيخوخة (Dementia) يكلف الاقتصاد البريطاني حاليّاً أكثر من 17 مليار جنيه استرليني، يتوقع العلماء أن تضع الزيادة المتوقعة، عبئاً إضافيّاً على الاقتصاد البريطاني يقدر بعشرات المليارات من الجنيهات سنويّاً.
هذه الصورة السوداوية لا تقتصر على بريطانيا فقط، حيث تشير الإحصائيات الدولية إلى وجود أكثر من أربعة وعشرين مليون شخص مصاب حاليّاً بعته الشيخوخة حول العالم. ويقدر الباحثون أن هذا العدد سيتضاعف كل عشرين عاماً، ليصل إلى واحد وثمانين مليون شخص مصاب بحلول عام 2040. وبالنظر إلى أن عته الشيخوخة يعتبر من أعلى الأمراض تكلفة على المجتمع -بشكل مباشر أو غير مباشر- يمكننا أن نتخيل التكلفة الاقتصادية لرعاية هؤلاء الملايين، وأثرها على نظم الرعاية الصحية. وهو ما ينطبق أيضاً إلى حد كبير على حوادث السقوط التي يتعرض لها المسنون، وتنتج عنها إصابات خطيرة وإعاقات شديدة، مثل كسور عظام ومفصل الفخذ، وكسور وإصابات الرأس الخطيرة، التي تتطلب قدراً لا يستهان به من المصادر المالية لتوفير الرعاية الصحية اللازمة في تلك الحالات. ويتكرر هذا الوضع أيضاً مع الأمراض السرطانية، وأمراض القلب والشرايين، وهي أكثر الأمراض غير المعدية انتشاراً بين المسنين، وأكثرها أيضاً تسبباً في الوفيات بينهم.
ويطرح التغير الديموغرافي الذي يمر به الجنس البشري حاليّاً مشكلة اقتصادية أخرى تؤرق مضاجع الاقتصاديين والسياسيين في العديد من الدول، هي مشكلة احتمالات فقدان أحد أهم مكونات دولة الرخاء الحديثة، أو نظم التقاعد والمعاشات في الدول الغربية الغنية. فمنذ أن وضع "بسمارك"، مستشار ألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر، أسس هذه النظم، تمتع الملايين في الغرب بإحساس بالأمان في سنوات خريف العمر. وهو الأمان الذي بدأ يتلاشى مؤخراً نتيجة اعتماد نظم التقاعد الحديثة على مساهمات القوى العاملة من صغار السن في الضمان الاجتماعي، من خلال الضرائب. ولكن في ظل ازدياد أعداد المسنين، المترافق بتراجع وانكماش أعداد صغار السن من دافعي الضرائب، أصبحت نظم المعاشات في العديد من الدول الغربية مهددة بالانهيار عما قريب. ولذا يقتنع كثيرون بأن صناديق المعاشات في دول مثل ألمانيا، واليابان، والولايات المتحدة، ستواجه الإفلاس لا محالة خلال بضعة عقود، في ظل الاتجاه الحالي للتغيرات الديموغرافية سابقة الذكر، وهو أمر إذا ما حدث سيشكل كارثة اقتصادية لعشرات الملايين من الغربيين. وإن كان هذا الانهيار ربما قد يعود بفائدة ديموغرافية تتمثل في عودة الأسر لإنجاب الأطفال بمعدلات أكبر، للاعتماد عليهم ماديّاً عندما يشيب الشعر وينحني الظهر، كما كان الحال إلى وقت قريب في المجتمعات الآسيوية والشرقية بصفة عامة.