منذ أن وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أصبح إصلاح العرب وأحوالهم هو الحديث المفضل للدوائر الدولية كافة وعلى رأسها الأميركية بطبيعة الحال، باعتبار أن الولايات المتحدة تمثل القيادة المنفردة للنظام العالمي في اللحظة الراهنة.
تبلورت نظرية مفادها أن أوضاع العرب السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية أفرزت فكر الإرهاب ورجاله، ومن ثم فإن النجاح في الحرب عليه يتمثل أولاً وأخيراً في النجاح في إصلاح الشأن العربي. ساعد على ذلك أن الغالبية العظمى من العرب لم تجرؤ على أن تنكر الحاجة الماسة إلى الإصلاح، إما لأنها حقيقية وإما اتقاءً لشر غضبة أميركية التي لا تبقي ولا تذر. ربما دار حوار بين العرب حول آليات الإصلاح وهل تكون مفروضة من الخارج أم تنبع من لدنهم، وربما يكون بعضهم قد ردد حديث الإصلاح على سبيل المراوغة حتى تمر العاصفة أو ينتهي الإعصار، وربما يكون البعض الآخر قد تباهى بما حققه من خطوات على طريق الإصلاح، إلا أن أحداً لم يجرؤ على أن يجاهر بأن الأوضاع العربية بخير. شغل العرب جميعهم بالدفاع عن أنفسهم: نعارض الإرهاب وترفضه قيمنا، ويشهد بذلك تاريخنا، ونؤمن بالإصلاح وجدواه، ونسير بالفعل على طريقه، وننوي أن نغذ السير نحو غاياته، لكن أحداً لم يتوقف لينظر في أمر أولئك الذين يرهبونه بحديثهم الدائم عن الإصلاح، فهل ترانا وحدنا بحاجة إليه أم أن غيرنا ليس أقل احتياجاً منا لذلك؟ وإذا كان مبعث الاهتمام الدولي بإصلاحنا قولهم إن ما تفرزه أوضاعنا من إرهاب بات خطراً على العالم من حولنا كما تجلى في أحداث 11 سبتمبر، فإن بمقدورنا أن نرد بالمقابل بأن اهتمامنا بإصلاح غيرنا مبعثه أيضاً أننا ندفع ثمناً فادحاً لفساد أوضاعه.
ألحت عليًّ هذه الخواطر وأنا أتابع يومياً ما تنشره الصحف وما تذيعه وسائل الإعلام المختلفة فأجد ما يسمى بأعمال الإرهاب ينتشر في العالم في بقاع واسعة من الكرة الأرضية -وإن بدرجات متفاوتة- بوتيرة غير مسبوقة، ويصبح السؤال المنطقي في هذا السياق: أين دورنا ودور غيرنا في كل ما يجري؟ ولكي يصبح السؤال أكثر وضوحاً ويسراً لنأخذ أنهار الدماء التي تسيل في العراق مثلاً: أين مسؤوليتنا ومسؤوليتهم عما يجري؟ ولنبدأ القصة من أولها.
عندما كنت أُدرِّس مبادئ العلوم السياسية أو العلاقات الدولية لطلاب المرحلة الجامعية الأولى كنت أشدد كغيري على صفة الرشادة التي تتسم بها عملية صنع القرار في العالم المتقدم، ومنه -أو على رأسه- الولايات المتحدة بطبيعة الحال، كون القرارات تتخذ في هذه الحالات استناداً إلى تحديد دقيق للموقف والأهداف، ثم بحث منهاجي عن أفضل البدائل لتحقيقها في إطار الموقف القائم، ثم اختيار عقلاني لبديل يمثل القرار الذي ينطلق إلى الواقع العملي فينجح أو يفشل، فإن أفادت المعلومات بنجاحه تكرر، وإن أفادت بغير ذلك تم تصحيحه أو تعديله أو تغييره بالكامل، وكان المرء ينعي على بلدان العالم الثالث ونحن منها بعدها الشاسع عن هذه الرشادة. فأين نحن مما جرى ويجري على يد الإدارة الأميركية الراهنة؟
اتخذت هذه الإدارة قرارها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بإعلان حرب عسكرية ضارية على الإرهاب، وفي البداية تقبلت الغالبية -وإن على مضض- سلوكها بضرب أفغانستان باعتبارها موطناً لنظام حكم بدا خارجاً عن سياق الزمان، ناهيك عن احتضانه لقيادات تنظيم القاعدة المتهم بتدبير الأحداث، لكن نقل الحرب على الإرهاب إلى العراق بدا غريباً. قيل إن لنظام الحكم السابق في العراق صلة بتنظيم القاعدة تبرر ضربه خشية أن يكون حلقة مهمة في دعم ما هو مقبل من أعمال إرهابية، وثبت الخطأ الكامل لهذه المقولة بناءً على تحقيق رسمي أميركي، وقيل إن النظام العراقي السابق يمتلك أسلحة دمار شامل، ونفى ذلك النظام التهمة في حينه، لكن العدوان على العراق وقع على الرغم من ذلك، ولم يتم العثور على أي أثر لهذه الأسلحة بعد أكثر من عام على احتلال العراق، وتم العدوان على العراق دونما أي مسوغ من قرار دولي أو قاعدة قانونية دولية رصينة، وقيل إن أحد أهداف ضرب العراق هو غياب الديمقراطية فيه فإذا بسلطات الاحتلال ترتكب أبشع جرائم الانتهاك لحقوق الإنسان في سجون العراق ومعتقلاته، وتبتكر صيغة غير ديمقراطية للمرحلة الانتقالية في العراق، وقيل إنها ذاهبة لإعادة بناء العراق كي يكون رأس رمح للديمقراطية والتحديث في المنطقة، فإذا بها تسلم العراق لأكبر موجة من الفوضى عرفها في تاريخه المعاصر، فأين هذا كله من الحديث عن الحكم الصالح الذي تُشنَّف به آذاننا صباح مساء؟
يبدو واضحاً أن الإدارة الأميركية لا تقل احتياجاً للحكم الصالح عنا نحن العرب، فقراراتها تتخذ استناداً إلى معلومات مغلوطة (حول المقاومة العراقية مثلاً) بفعل عملاء لا وزن لهم أو مخابرات عربية غير عالمة ببواطن الأمور، أو بفعل مخابراتها المركزية ذاتها التي ثبت إخفاقها غير مرة، وعملية التصحيح أو التغذية الاسترجاعية بلغة التحليل السياسي تبدو متوقفة تماماً، فالإرهاب يتصاعد ولا يقل،