إصلاح الفكرة الوطنية
في الحالات التي يشاء فيها القراء منح تقديرهم لكاتب يتعاطى الصحافة، فإنهم عادة ما يصفون كتاباته بأنها "صعبة التنبؤ بما تحتويه قبل إكمال قراءاتها"، وما يعنونه بذلك، هو أنه يوجد فيها عنصر المفاجأة، ونهايات ونتائج غير متوقعة فيما يكتبه. لكن الباحث أو الكاتب أو المعلق السياسي الذي لا يمكن التنبؤ به حقيقة، هو كاتب كالربان المبحر، لكن دون أن تكون لديه بوصلة أو دفة، وأعماله لا تعكس فلسفة مدركة أو مميزة.
وعندما يصف قارئ كريم كاتباً بأنه غير قابل للتنبؤ به، فإن على الكاتب الرد بأنه بالنسبة لأي مواطن من الإمارات ملم بشكل كاف بطرق تفكير جيل المواطنين الذين عايشوا مرحلة الصحوة الوطنية في ستينيات القرن الماضي، فإن جميع النهايات التي يصل إليها قابلة للتنبؤ بها.
إن أكثر الجوانب إزعاجاً في محتوى أي حديث وطني، أن تفترض العامة القارئة بأن المتحدث يجب أن يكون قابلاً به لأنه يحمل وراء اسمه صفة أو نعتاً سياسياً محدداً، فذلك يورث لدى أي كاتب شعوراً بالكآبة بأنه أصبح حبيس قولبة تقليدية، لكنها غير مناسبة أو مفيدة.
وليس من غير المنطقي للبشر أن يعتقدوا بأن الأفكار تأتي في عناقيد كعناقيد عذق النخلة، فهم يعتقدون بأنه إذا ما كان الشخص يحمل اعتقاداً معيناً، فإن من الأرجح أن يشارك في أفكار أخرى معينة. ويحدث ذلك ليس بسبب أن الأفكار الأخرى تتبع كنتيجة منطقية لا مفر منها للفكرة الأولى، ولكن بسبب أن الأفكار الأخرى تبدو فقط بأنها ملتصقة بالفكرة الأولى كمسألة عادة ليس إلا.
معظم البشر، حتى السياسيين المحترفين منهم، يبعدون أنفسهم عن المسميات والصفات السياسية كأن يسمى الواحد منهم تقدمياً أو محافظاً أو غير ذلك، لأن هذا النوع من المسميات تقولب الإنسان ضمن إطار فكري، قد لا يكون صحيحاً. لكن المسميات قد تكون منطقية لأن أحكام الإنسان المنطقي السياسية ليست عشوائية.
عناقيد الأفكار المعتادة تُظهر تطابقات وانسجامات وانجذابات من شأنها الإفصاح والتأكيد على نزعة خاصة وحساسية بالغة وتلطيف سياسي بالإضافة إلى فلسفة سياسية. سياسياً تنتظم الأفكار في عناقيد، والبشر يتجمعون مع بعضهم بعضا، لكن توجد لحظات يكون عندها من الضروري بشكل خاص اقتراح أنماط تجمع بديلة. وأعني بذلك أن الأفكار التي تشكل نمطاً وطنياً لم تعد العامة معتادة عليه يجب أن يتم تفكيكها وإعادة تأسيس بدائل جديدة عنها.
من المعروف أن التقسيمات الاجتماعية والسياسية تؤطر، ومن طبيعتها أن تشمل، وأن تستبعد وأن تستثنىي بطرق تسهل المعرفة بالأشياء، ونأي البعض بأنفسهم عن مسمى وطني أصبح بالياً إلى درجة أنه يخدش التفكير السليم والانتماء لوطن معطاء.
الأمل في إعادة صياغة المفاهيم الوطنية بطريقة تتماشى مع الحتميات العريضة للنهضة المباركة التي يشهدها الوطن في هذه المرحلة.
يسألني العديد ممن يعرفونني منذ زمن طويل نسبياً: لماذا تعتبر نفسك الآن وطنياً وسطياً؟ وجوهر هذا السؤال يعود بالتأكيد إلى اعتقادي بوجود وطن اتحادي قوي وحكومة اتحادية قوية، وضرورة دعم الدولة الاتحادية القائمة وقيادتها بشكل مستمر. ويوجد الكثيرون من المواطنين الذين يحملون الفكرة الوطنية في أذهانهم ويعتبرون أنفسهم وطنيين من الطراز الأول يجمعهم حب الإمارات وقيادتها والتفاني في خدمتها، لكن ذلك يحدث بصمت وهدوء. خاتمة القول هي أن السياسة أكثر صعوبة وتعقيداً مما تبدو عليه للوهلة الأولى. وللحديث صلة.