لماذا أخفقت الأحزاب؟
عاش العالم العربي، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، واستقلال بلدانه، وتصارع تياراته، حياة حزبية وأيديولوجية صاخبة. وقد عرف التاريخ العربي ظاهرة التحزب منذ زمن بعيد، ربما منذ القرن الهجري الأول. أما الأحزاب السياسية الحديثة فقد بدأ ظهورها مع نهاية القرن التاسع عشر، ومع تفاقم أحوال الدولة العثمانية ونمو المشاعر القومية وغير ذلك. ولهذا، تنوعت الأحزاب العربية وانتشرت، كما وصل بعضها كحزب "البعث"، إلى السلطة.
ويلاحظ الباحث المصري اسماعيل صبري عبدالله، في مجال تأمل الظروف الموضوعية التي أحاطت بالحياة الحزبية، "تكون عدد كبير من الأحزاب السياسية العربية على أسس طائفية أو عشائرية بالرغم من الأسماء العصرية، التي أطلقها مؤسسو تلك الأحزاب عليها.. بل إن بعض أحزابنا الحديثة التي تتجاوز الطائفية والعشائرية وتطرح نفسها على أساس سياسي وعقلاني، كثيراً ما تكشف أن عضويتها تأتي أساساً من الطوائف والعشائر المضطَهَدَة. ولدينا أحزاب توحدّت في شخص زعيمها بحيث أصبح قوله لا يُردّ ومشيئته إرادة الحزب. فإذا كان الحزب في السلطة، فإن كلمة الزعيم هي كلمة القطر كله. ومن غير المتصور عقلاً، ومن المستحيل عملاً، أن يكون حزب ما ديمقراطياً في تعامله مع أحزاب أخرى أو مع المنظمات الجماهيرية أو حتى الجماهير ذاتها، إذا لم يكن يمارس الديمقراطية في حياته الداخلية. إن فاقد الشيء لا يعطيه".
استعرض المثقف والسياسي القومي المعروف، الأستاذ "معن بشور"، "التجربة الحزبية في نصف قرن"، في محاضرة مهمة ألقاها في الأردن، ونُشرت في كتاب صادر عن "مؤسسة عبدالحميد شومان" بالأردن عام 2000، بعنوان "الوطن العربي وخيارات المستقبل". أولى ملاحظات أ. بشور على هذه التجربة الحزبية، ما بين 1950 و2000، أن كل مرحلة تجتذب جيلاً من الشباب، يكون إلى حد كبير متحدِّراً من جيل انتمى إلى تيار سابق. "فالكثير من أعضاء الأحزاب القومية التغييرية التي شهدتها المنطقة هم أبناءٌ لأعضاء الأحزاب الاستقلالية التي لعبت دوراً مهماً في مرحلة مناهضة الاستعمار، كما أن الكثير من أبناء القوميين بالأمس وحدوا ضالتهم اليوم في الحركات الإسلامية".
ولكن هل مثل هذه الاختيارات الحزبية ناضجة ونهضوية حقاً؟ الواقع، يقول أ. بشور، "إن الأغلبية الساحقة من المنتمين إلى مدارسنا الفكرية والعقائدية تتسم بكسل فكري فاضح يتمثل بالاكتفاء بما ورد في الكتب المرجعية، مستخرجين منها التعاليم الأساسية والشعارات العامة ليطرحوها كما هي، بوجه تعاليم الآخرين وشعاراتهم، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث الفكري والدراسة الميدانية في أعماق مجتمعاتهم". ويستعرض د. "بشور" مختلف التيارات فيقول: "القوميون مثلاً رفعوا شعار "الوحدة هي الحل" دون أن يقدموا برنامجهم لتحقيق الوحدة أو رؤيتهم لصيغتها التي قد يوافقهم عليها غير القوميين. وكذلك الاشتراكيون الذين رفعوا شعار "الاشتراكية هي الحل"، والليبراليون ممن نادوا بأن "الديمقراطية هي الحل"، والإسلاميون الذين شددوا على أن "الإسلام هو الحل". ولو أعمل هؤلاء الجميع فكرهم لقدموا برنامج عمل يجمع بين هذه التوجهات. لكن الكسل الفكري، والاكتفاء بالنقاشات الفكرية المجردة، حوّل الحوارات إلى نوع من الجدل العقيم".
وقد أدى هذا الكسل الفكري إلى استسهال التعميمات الجاهزة. "التي تقدم نفسها على شكل قوانين إلى أنصاف المثقفين والجهلة، فيرتاحون إليها ويطربون لبلاغتها اللفظية وصياغتها الجميلة ولمداعبتها أحلامهم وتمنياتهم".
نحن إذاً، حين نتأمل هذا الجانب من إهمال الواقع في الحياة الحزبية، نلاحظ أننا ضحايا البلاغة والبيان!
"فحين تصادر اللفظية الجميلة الواقع الحي وتحل محله، وحين يصبح الطباق أو الجناس أو غيرهما. هو البديل عن البحث العلمي، تسود حالة من الجهل المزدوج: جهل بالأشياء أولاً، وجهل بحالة الجهل ثانياً". فنكون مرضى، ونجهل أننا مرضى!
ومن ملامح هذا التخبط الفكري السائد، "الخلط بين الفكر والإعلام وبين العقيدة والدعاية، وبين التحليل العلمي والخطبة المرتجلة".
ومثل هذه التحولات والتركيبات العجيبة، التي يشير إليها معن بشور، نراها على نطاق واسع مثلاً في ندوات "الحوار القومي-الإسلامي"، و"المشاريع النهضوية" وغيرها. وفي أعمال د. محمد الجابري وأحمد صدقي الدجاني ود. محمد عمارة وصلاح الدين الجورشي ود. برهان غليون...إلخ. غير أن بعض الماركسيين العرب اكتشف لحسن الحظ، مخاطر هذا التماهي العقائدي، ومن هؤلاء د. سمير أمين، المفكر المصري المعروف الذي وجه نقداً لاذعاً في ندوة الحوار القومي-الإسلامي، بيروت 2008 لشعار "الإسلام هو الحل" الذي تطرحه القوى الدينية دون دراسة وتعمق. وقد تساءل د. أمين: هل يمكن في عصر العولمة، أن يصبح هذا الشعار مقبولاً في المجتمعات غير المسلمة - الصين والهند وأوروبا وأميركا اللاتينية...إلخ؟ "قطعاً لن يكون شعاراً مقبولاً لديها. وبالتالي، فإن محاولة العمل طبقاً لهذا الخيار لابد -إذا تم تعميمه- من أن يقود إلى إعلان مشابه له في المناطق غير المسلمة، أي إلى إعلان أن "المسيحية هي الحل"، هنا، والكونفوشيوسية هناك، والهندوسية في مكان آخر...إلخ".
ونعود إلى تحليل التجربة الحزبية العربية في نقطة أخرى يطرحها "معن بشور" حيث أدى الكسل الفكري وما نجم عنه من جمود فكري وذرائعية عقائدية وتراجع دون الثقافة والتعمق إلى نتيجة خطيرة هي "الانغماس في لعبة السلطة، والصراع على النفوذ والمناورات الرخيصة البالية"! إننا، يضيف "لا نواجه أزمة إنتاج ثقافي بالكم، وإنما أزمة إنتاج ثقافي بالنوع". ولهذا يتساءل الكثيرون: "لماذا لم يحصل أي تطور فكري حقيقي طيلة السنوات الثلاثين الماضية؟ لماذا معظم ما نسمعه من أحزابنا هو اجترار لعقائد وأفكار سبق وأن طرحت قبل سنوات أو عقود أو قرون"؟
ويسوق بشور جملة ملاحظات أخرى على واقع الأداء الحزبي في العالم العربي. فالعمل لا يزال قائماً على التنظيمية الصارمة والاجتماع الحزبي الكلاسيكي دون النجاح في تطوير صيغ عمل تستوعب الطاقات الشعبية. كما تركت التجربة وما رافقها من عمل سري ومطاردة وسجن آثاراً سلبية وتشوهات نفسية تعبر عن نفسها بميل المناضلين إلى الشك المبالغ فيه بالآخر، وإلى التقوقع والانغلاق، وإلى بروز شهوة حادة للسلطة ولمفاسد الحياة على أنواعها.
وبسبب التوق إلى الإمساك بالسلطة في أسرع وقت، وقبل نضوج الظرف الموضوعي، حل العمل الانقلابي مكان العمل السياسي، كما تنامت فجوة بين القيادات من جهة وبين القواعد والجماهير، فباتت كوادر الأحزاب ممزقة بين ولائها للتنظيم والحزب وبين حبها للجماهير. وتعمق صراع الأجيال داخل الأحزاب وانعكس ذلك بقوة على القيادة. "فالأجيال القديمة تعتبر أنها بما قدمته من تضحيات، وبما تمتلكه من تجارب وخبرات، صاحبة الأفضلية في الاستمرار بقيادة هذه الأحزاب، بينما تعتبر الأجيال الجديدة، بما تمتلكه من حيوية، ومن قدرة على التجدد الذاتي وتجديد الأحزاب والحركات، يجب أن تتولي القيادة".
لهذا كله، عجزت الأحزاب عن تحقيق برامجها والانتشار في الأطر التي حددتها لنفسها، وحتى الأحزاب القومية الكبرى، "لم تتمكن من أن تخترق بشكل جدي أقطاراً أساسية كبرى".