كان لافتاً في قمة الدول الثماني (الولايات المتحدة)، ثم في القمة الأميركية-الأوروبية (أيرلندا)، وأخيراً في قمة دول حلف الأطلسي في أسطنبول، أن العراق والشرق الأوسط والسودان وإيران احتلت الواجهة. وكأن الانشغال بهذه المنطقة أصبح الهمّ الدولي الوحيد. ما يسمح بالاعتقاد بأن دول هذه القمم لا مشكلات بينها تستحق جانباً من الوقت الثمين للزعماء. هذا انطباع خاطئ، فالخلافات في ما بينها لا تتعلق بالموقف مما يجري في العراق، ولا بمستقبل السلام في الشرق الأوسط، ولا بتطبيع الوضع في السودان، ولا بحل ألغاز العلاقة المعقدة مع إيران، وإنما يندرج كل ذلك في إطار نظرة الكبار الأقوياء إلى العالم. ولذلك فإن السؤال الحقيقي المطروح ليس ماذا نستطيع للعراق أو للسودان، وإنما ماذا تريد الولايات المتحدة؟
من الواضح أن الحرب على العراق، كما تصورتها واشنطن وكما خاضتها وكما غرقت فيها، هي التي فجرت التناقضات وأيقظت الهواجس وأثارت التساؤلات. كل ما يجري الآن هو مجرد محاولات لمعالجة الأخطاء، مجرد "حركات تصحيحية" لا تبدو دائماً موفقة. وعلى رغم بروز الأخطاء فإن الرئيس الأميركي، الساعي إلى ولاية ثانية في البيت الأبيض، يهمه أن يثبت أنه لم يفعل في العراق إلا الصواب. وإذا لم ينجح في هذه المهمة ستبقى حظوظه في الانتخابات متأرجحة. فمع شيء من التنازلات الشكلية، استطاع أن يجر الأمم المتحدة والدول الأوروبية المعارضة للحرب إلى صيغ للتعاون قد لا تكون ناجحة كلياً وقد لا تكون مجدية في نهاية المطاف، لكنها مفيدة لإشاعة الانطباع بأن "تغييراً" طرأ على المناخ الدولي، وأنه تغيير بالأحرى إيجابي، بل أكثر من ذلك أنه في الاتجاه الذي حددته واشنطن أصلاً.
الآن، حانت لحظة إقحام الملف الأطلسي الذي تشارك أكثرية دوله، أقل أو أكثر، في قوات ما يسمى "التحالف" في العراق. الأوروبيون لا يعتبرون أن العراق في ورطة، وإنما يعتبرون أن الولايات المتحدة في ورطة هناك، وبالتالي فهي جاءت إليهم متوقعة مساعدتهم إن لم يكن في إطار الاتحاد الأوروبي فليكن من داخل حلف الأطلسي. كانت عقيدة الحلف عدّلت قبل أربعة أعوام لتسمح بتوسيع عضويته فانضم إليه عدد من الدول الاشتراكية السابقة، ولتجيز تدخله في أي مكان وليس في أوروبا فقط. وجاءت الحرب على الإرهاب لتشكل اختباراً أولاً لهذا التدخل ولم تجد دول الحلف أية إشكالات في الانضمام إلى التحالف، الذي خاض حرب أفغانستان، بل لا يزال الحلف هو العمود الفقري للقوات الموجودة هناك. إلا أن الحرب على العراق فرّقت الصفوف أطلسياً وإن لم تحل دون مساهمات الأعضاء فرادى إلى جانب الأميركيين.
مع ذلك، لم تجد واشنطن مفراً من ضرورة المساعدة الأوروبية في ما بعد الحرب. فهي تحتاج إلى قوات عسكرية، إلى تخفيف ديون أوروبا المستحقة على العراق، وإلى تغطية سياسية للأهداف التي حددتها لـ"حروبها" بعد 11 سبتمبر. في كل المتطلبات، التي تحتاج إلى قرارات، وفي دول يفترض أنها ديمقراطية، لم تحسب واشنطن أبداً حساب الرأي العام أو حتى حساب الدول الأخرى التي لا تحتلها لكنها تحتاج بشدة إلى حوافز التنمية. وهو ما نبّه إليه الرئيس الفرنسي عندما أبدى استعداداً للاستغناء عن الديون العراقية، إلا أن هذا يعني أنه سيحرم دولاً أفريقية من أي مساعدات. وإذا كانت الديون أرقاماً يمكن إذابتها في توليفات "نادي باريس" فإن إرسال قوات إلى العراق بات من القرارات المؤرقة لأي حاكم منتخب يريد أن يبقى على وئام مع شعبه. ثم إن الأهم أن الولايات المتحدة لم تتوصل إلى بناء نظام مغريات لتشجيع الآخرين على الإقدام.
الأهم أيضاً - كما يشير العديد من المؤلفات الأوروبية الجديدة- أن واشنطن لم تبدِ أي استعداد لنقاش عميق وهادئ يمكن أن يوضح علاقتها بـ"الحلفاء"، وأن يحدد أهدافها لما يمكن أن يسمى "النظام الدولي الجديد". فهناك الكثير من الشكوك والتساؤلات على المستويات الأمنية والعسكرية والاستراتيجية بات يتطلب وضوحاً في الرؤية. ويصعب القول إن حربي أفغانستان والعراق قد أضاءتا الطريق أمام الحلفاء، بل على العكس زادتا الغموض وأضاعتا البوصلة في البحث عن أرضية مشتركة للنظرة إلى العالم.
السؤال المطروح عملياً: هل إن الهدف الرئيسي لحلف الأطلسي سلمي أم حربي، وإذا كانت مساهمته حاسمة في الأمن الدولي فلابد من أن يستند إلى سياسة واحدة متفق عليها. هذه السياسة هي ما يبدو الآن مفقوداً، ويصعب القول إن قمة أسطنبول ستعثر عليها. لكن منطق التسويات سيساهم في تأجيل الخلافات، وبالتالي تأجيل النقاش الحقيقي، إلى قمة أطلسية أخرى. في الانتظار، سيباشر الأطلسي نشاطاً "تخريباً" في العراق وربما في بقية المنطقة (من خلال توريطه بـ"الإصلاحات") كإطار افتراضي لـ"الوحدة" الأميركية - الأوروبية.