فرص الاندماج المغاربي
أصبحت إعادة بناء المجتمعات والشراكات الإقليمية العلاج الأنجع الذي يسمح للدول كيفما كان حجمها اقتصاديّاً وسياسيّاً بمواكبة الوتيرة السريعة للحاضر، وبمجاورة الدول العظمى، وجعل التأثير السلبي والحتمي للعولمة والتحولات الدولية عليها نسبيّاً.
وتعطي تلك الاتحادات للدول الوحدة والقوة والمناعة العضوية، مما يحملها على التأثير في النظام العالمي مبادرة، وعلى الحد من تقلباته وويلاته دفاعاً.
والمغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، موريتانيا)، للأسف، هو في تلك الإشكالية المستمرة القائمة من جانب على تواجده في موقع حساس، ومن جانب آخر على كونه من أقل اللاعبين في الساحة الإقليمية والدولية بسبب عدم استغلال عناصر القوة التي بحوزته.
إن دول المغرب العربي تتوفر على الكثير من عناصر القوة الطبيعية والبشرية ولكنها لا تستغل الاستغلال التام لتعظيم الفوائد منها، ولو بحثت جيداً لتشخيص مكمن العلة لوجدت أن العامل السياسي هو العامل غير المشجع للوحدة المغاربية. فما زالت الحدود المشتركة بين المغرب والجزائر مقفلة منذ 1994، وهما بلدان جاران، قاوما الاستعمار معاً، ولا توجد إطلاقاً مشاكل خطيرة، عدا الأسباب السياسية المتصلة بالخلاف على قضية الصحراء المغربية، ولكن ما زالت هناك عقليات سياسية تقادَم عليها الزمان، ورثها بعض العسكريين والمدنيين من الحرب الباردة، وهي لا تؤتي أكلها بتاتاً وتحول دون الرؤية الثاقبة للأرض "الزمانية الحضارية".
والحدود ستفتح إما عاجلاً أو آجلًا، ولكن الذي يدفع الثمن غاليّاً اليوم هو ذلك المواطن المغاربي الذي تتأخر عنه عجلة التطور، بينما جاره الأوروبي يتمتع بقدرة تتقوى يوماً بعد يوم، ومجتمعاته تتمتع بسيولة كبيرة في الحراك الاجتماعي تجعلها قبلة لملايين من المغاربيين الطامعين في الهجرة إليه.
لقد مر أكثر من عشرين سنة على إنشاء اتحاد المغرب العربي، ولكنه يبقى كشجرة بدون غصون، فقد تعطلت مسيرة الاتحاد المغاربي، وأصبحت كلفة اللامغرب باهظة على رغم الإمكانيات الذاتية لهذه البلدان (اتساع رقعة السوق المغاربية إلى 100 مليون نسمة وارتفاع الناتج المحلي الإجمالي إلى 241 مليار دولار).
فأين نحن من المشروع الاندماجي الإقليمي، بدءاً بإقامة منطقة مغاربية للتبادل الحر، فوحدة جمركية، ثم سوق مشتركة وصولاً إلى قيام وحدة اقتصادية؟ أين نحن من الانطلاق الفعلي للمصرف المغاربي للاستثمار في التجارة الخارجية؟ أين هو صوت القطاع الخاص في تجسيم التكامل الاقتصادي والاجتماعي؟ أين هي تلك الروح الاستقلالية التي كانت جوهر عقيدة جيل الثلاثينيات بل وحتى الخمسينيات من القرن الماضي، وتلك الطموحات الوحدوية التي كانت تلهم مقاربته؟ فهل حكامنا اليوم يعادون تطور شعوبهم؟ نتساءل، ونعرف في عميق إدراكنا الجواب: وهو طبعاً لا!
خلال السنوات الأخيرة استدعيْتُ لمنتديات فاس حول الشراكة الأورو- متوسطية العديد من المختصين وأصحاب القرار والجامعيين ومديري البنوك والمؤسسات الكبرى من ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وكنت دائماً أسعى لكي يكون من بين المدعوين جزائريون، وكانوا يلبُّون دائماً الدعوة وكان منهم وزراء بل ورؤساء وزراء سابقون، شاركوا في صياغة إعلانات منتديات فاس الجريئة، فالتمست فيهم حبّاً جمّاً للوحدة المغاربية، وأسفاً وحسرة على الواقع، أما الجامعيون والطلبة المغاربيون المشاركون فلا تسل، فأملهم في تثبيت دعائم الوحدة المغاربية لا يوصف، فاقتنعتُ اقتناعاً تامّاً أنه لا يوجد تناقض بين المعادلتين الشعبية والرسمية، بل هناك تناقض بين المعادلة الرسمية والرسمية داخل البلد الواحد، فهناك قلة قليلة جدّاً ملوثة بفكر العداء والإلغاء، لها رؤية قُطرية ضيقة وتقليدية ما جعل الله لها من سلطان، كبرت إلى أن تحجرت فألغت الاعتراف بالآخر وأصبح شغلها الشاغل "من يقود ومن يتبع؟".
إن كل المجتمعات العالمية تدخل في إطار شراكات إقليمية، وليس كل تلك المجتمعات ديمقراطية في بداياتها، فرابطة دول جنوبي شرقي آسيا مثلا أنشئت منذ عقود بموجب "إعلان بانكوك" ومن خمس دول فقط: إندونيسيا، وماليزيا، والفليبين، وسنغافورة، وتايلند، ثم توسعت لتشمل خمس دول أخرى هي فيتنام، وبروناي، وميانمار (بورما)، ولاوس، وكمبوديا، وهي دول متجاورة ومتشابهة؛ وقد خلقت الرابطة منطقة للتجارة الحرة وأنشأت "المشروعات المشتركة" من خلال استراتيجية "مثلثات النمو"، مما كانت له نتائج إيجابية منها: 1) زيادة في حجم التبادل التجاري بين الدول. 2) تراجع دور الحكومات لإعطاء القطاع غير الحكومي الدور القيادي في عملية التنمية الداخلية. 3) زيادة دور مؤسسات المجتمع المدني والجماعات السياسية غير الحكومية حتى بدأت تسمع صوتها في داخل مؤسسات النظام السياسي فأنتج بدوره التعددية السياسية. 4) بعد ذلك اتجهت الآسيان إلى الانفتاح على محيطها الإقليمي بإنشاء روابط مؤسساتية مع دول شرق آسيا كالصين واليابان وكوريا الجنوبية في إطار ما يسمى بالآسيان + 3. أما دول المغرب العربي فهي على العكس من ذلك تماماً، فممثلو المجتمعات المدنية والجماعات السياسية غير الحكومية غير موحدي الصفوف، وتلك المجموعات لا يمكنها أن تُسمع صوتها في داخل مؤسسات النظام السياسي، وكل دولة، في غياب شراكة إقليمية حقيقية، ووحدة مغاربية متميزة، تدخل منفردة في علاقات تجارية، وفي محادثات غير متكافئة مع الجارة الأوروبية وهي من الوحدة والقوة والمناعة بما يسمح لها باختراق السوق المغاربية كاملة ما دامت تفتقر إلى المناعة.
ويقيني أنه لو أحسنت تلك القلة من الجانب الرسمي المغاربي التصرف، وتجنبت الدعايات المغرضة التي تقدس عن قصد الطروحات الوطنية التقليدية، واتصلت بروح البلاد وأهله، لخففت من حدة تأثر شعوبها بالتطورات الإقليمية والعالمية، ولأخرجتها من ظلمات التخلف إلى نور التقدم، وليس لها الحق لا عقلاً ولا شرعاً في منع الشعوب المغاربية من الالتحاق بالنموذج السياسي والاقتصادي والإيديولوجي الرابح (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، فهل من مستمع؟!