رغم تعهد أوباما بإجراء مراجعة شاملة للسياسة الأميركية تجاه أفغانستان بحلول ديسمبر المقبل، يبدو أن قراره يواجه صعوبات كبيرة بالنظر إلى الاستراتيجية الحالية المعمول بها في أفغانستان، والقائمة على الزيادة في عدد القوات الأميركية، وهي الاستراتيجية التي شُرع بالعمل بها مباشرة بعد تولي أوباما الرئاسة. كما أن "البنتاجون" تسير في عكس اتجاه تطلعات أوباما بالخروج من أفغانستان حيث تعمل حالياً على بناء قواعد عسكرية جديدة في أفغانستان لاستضافة عدد إضافي من القوات الأميركية بكل ما تحمله هذه القواعد من نمط حياة شبيه بما هو موجود داخل الولايات المتحدة من مطاعم الوجبات الخفيفة ومحلات التسوق والصرافة وغيرها من المنشآت، وكأن إقامة المجمعات المعزولة على السكان وبناء مدن خاصة بالجنود هي الدور الجديد للمؤسسة العسكرية الأميركية في العالم. ويبدو أن بناء قاعدة جديدة في أفغانستان تضم كل ما يحتاج إليه الجنود، يبعث برسالة واضحة للأفغان، كما للمتمردين، أن أميركا لا تنوي الخروج من أفغانستان في أي وقت قريب رغم كل المراجعات التي يخطط أوباما لإجرائها على السياسة الأميركية، وهو ما ينقلنا إلى موضوع اتخاذ القرار في واشنطن، وتحديداً رسم السياسة الأميركية تجاه أفغانستان. يتضح من خلال ما سبق أن قرار الزيادة في عديد القوات الأميركية كان قد اتخذ من قبل المؤسسة العسكرية حتى قبل دخول أوباما البيت الأبيض، وبأن الجنرالات الأميركيين من أمثال "بترايوس" و"ماكريستال"، كانوا فعلاً يعملون على نقل القوات الأميركية من العراق إلى أفغانستان في إطار التوجه الجديد الذي يركز على أفغانستان باعتبارها المعركة الرئيسية للولايات المتحدة ضد الإرهاب والتشدد، ولم يكن على أوباما سوى التوقيع على استراتيجية الجيش، الذي مازال يعتقد العديد من أركانه أنهم أدرى بما يجري في الميدان، والأكثر قدرة على صياغة الخطط العسكرية مقارنة برئيس جديد تسلم لتوه السلطة من سلفه. والحقيقة أن هذا الاعتقاد الذي يرى في الجيش المحترف الوحيد القادر على رسم الخطط العسكرية يجانب الصواب بالنظر إلى السوابق التاريخية عندما تعثرت المهام العسكرية الأميركية في فيتنام والعراق، ولاقت من الصعوبات ما يحرمها من أي ميول للتباهي أمام الإدارة المدنية. لكن يبدو أن المؤسسة العسكرية تهتم أكثر بالأساسيات والطريقة المثلى لكسب الحروب خلافاً للسياسيين الذين يركزون على الصورة الأشمل بتفاصيلها الجيوسياسية، آخذين بعين الاعتبار المصالح الكبرى لأميركا ومجمل المنظومة الإقليمية والدولية، التي تتحرك فيها الولايات المتحدة، فضلًا عن احتمالات المستقبل وآفاق النصر، وفي هذا السياق الذي يروج فيه السياسيون والأكاديميون لما يعتبره العسكريون خروجاً عن النص، وصلني مؤخراً على بريدي الإلكتروني تقرير أعده "مركز الأمن الأميركي الجديد"، يسطر فيه التحديات الأميركية في بعض مناطق العالم. التقرير يشير إلى كتاب جديد صادر مؤخراً للمؤلف "روبرت كابلان" بعنوان "مونسون"، الذي يشرح فيه الدلالة الاستراتيجية والأهمية الكبيرة للدول المشاطئة للمحيط الهندي بالنسبة للمصالح الأميركية، لا سيما الهند والصين، فحسب الكتاب يمثل المحيط الهندي "المكان الذي تُخاض فيه المعركة الحقيقية من أجل الديمقراطية، والاستقلال في مجال الطاقة والحرية الدينية التي سيتم كسبها أو خسارتها على سواحله، وهي المنطقة أيضاً، التي يتعين على السياسة الأميركية التركيز عليها للاحتفاظ بمكانتها في عالم دائم التغير". والحقيقة أني أجد هذا الطرح غريباً بعض الشيء، إذ لماذا يكتسي المحيط الهندي هذه الأهمية، وليس المحيطان الهادي والأطلسي على سبيل المثال؟ لا سيما وأن الصين والهند يجاوران بالإضافة إلى المحيط الهندي المحيط الهادي الذي لا يقل عنهما من حيث أهميته الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، التي خاضت من أجل السيطرة عليه معارك طاحنة خلال الحرب العالمية الثانية مع اليابان. ولا أعرف أيضاً لمَ التركيز على الهند والصين باعتبارهما قوتين تنافسان أميركا في المنطقة، ولا نتحدث على سبيل المثال عن اليابان، وباقي دول جنوب شرق آسيا، كما أني لم أستطع إقامة العلاقة بين ما يمثله المحيط الهندي من أهمية كطريق بحري لنقل الطاقة إلى الأسواق العالمية وبين الديمقراطية والحرية الدينية. وفي سياق آخر اطلعت على تقرير أعيد نشره في دورية فرنسية عن الدور المستقبلي للقوات الكندية في العالم فيما يفترض أن يكون دوراً محورياً في محاربة حركات التمرد وإعادة هيكلة الجيش الكندي على هذا الأساس، وذلك في إطار الخبرة والتجربة اللتين باتت القوات الكندية تتمتع بهما بعد مشاركتها مع القوات الأميركية في مهام خارجية، وإنْ كانت هذه المشاركة ظلت هامشية في أغلب الأوقات. والواقع أني لا أعرف لمَ اختار الجيش الكندي لنفسه دوراً ثانوياً في محاربة حركات التمرد فيما عُرف عنه مشاركته الفعالة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الكورية، والسبب كما جاء في التقرير الذي نقلته الدورية الفرنسية يرجع إلى التحولات التي يشهدها العالم والحروب القادمة، التي يتنبأ بها المحللون المعتمدة على معارك التمرد والعصابات، وهو ما كان وزير الدفاع الأميركي، روبرت جيتس، أكده في تصريح سابق قال فيه إن أفغانستان هي "مختبر" حروب القرن الحادي والعشرين، ويبدو أن قوات حلف شمال الأطلسي منهمكة في تغيير استراتيجيتها لمواجهة حروب التمرد، لكن ماذا لو انقلب الوضع واضطرت الجيوش خوض حروب تقليدية مثلما اضطرت القوات الكندية خوضها في الحرب الكورية؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفسز"