مسلسلات في قفص الاتهام!
كعادة الصحافة كل عام -بعد انتهاء شهر رمضان- يبدأ جدلُ المسلسلات العربية. ويبدو أن هذا العام جاء مختلفاً عما سبقه، من حيث دخول المسلسلات الدينية في هذه المعارك، حيث إن الأشخاص يعبرون عادة عن وجهات نظرهم فيما شاهدوه حسب ميولهم وأيديولوجياتهم ورؤاهم الفكرية للموضوع أو المشاهد التي جسّدت الموضوع.
ولقد دخل الإنتاج التلفزيوني هذا العام مناطق صعبة، ليس بالنسبة للمسلمين فحسب، بل أيضاً للديانات الأخرى التي تم وقف مسلسلات خاصة بها مثل مسلسل "المسيح" الذي بثته قناتا "المنار" وNBN في لبنان؛ من حيث اعتماد المسلسل على إنجيل مُحدد لا يتوافق عليه الأقباط ويعتبرونه مُحرفاً عن الإنجيل.
كما دخل مسلسل "القعقاع" على نفس الخط، وثار جدلٌ كبير حول التجسيد الجزئي للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، وبعض المواقف التي كانت مثار خلاف بين الطائفة السنية والطائفة الشيعية. بل وخفوت دور سيف الله المسلول (خالد بن الوليد) أمام دور (القعقاع)! وكان الأزهر الشريف قد حسم مسألة تجسيد الخلفاء، عندما أصدر فتوى برفض تجسيد الخليفة عمر بن الخطاب في وسائل الإعلام.
ودخل أيضاً مسلسل "الحسن والحسين" في ذات الدائرة، من حيث طريقة سرد المواقف المؤسفة التي حدثت وأدت إلى مقتل الحسين، رضي الله عنه، والتمثيل بجثته من قبل أنصار بني أمية. وتم وقف المسلسل أيضاً.
ولم تخلُ المعركة من دخول المسلسلات الاجتماعية أيضاً. وثار جدل كبير حول جنسيات الممثلين أو الممثلات في المسلسل، ممن تعرضن أو جسّدن مواضع شائنة كالمهن المخلة بالآداب، أو السرقة أو الاحتيال. وأحياناً أيضاً حشر أسماء سياسيين في بعض هذه المسلسلات. بل إن بعض علماء الدين انتقدوا بعض حلقات "طاش ما طاش" السعودي، وطالبوا بإيقاف المسلسل، تماماً كما حصل مع مسلسل "زهرة وأزواجها الخمسة" من استياء الممرضات المصريات من بطلة المسلسل. كما شنت جماعة "الإخوان" هجوماً شرساً على مسلسل "الجماعة" وطالبوا بإيقافه. ووصل الأمر إلى خبراء الآثار الذين طالبوا هم أيضاً بدورهم بوقف مسلسل "كليوباترا" بتهمة تشويهه للتاريخ.
وعلى رغم أن الاختلاف ظاهرة صحية في كل مناحي الحياة! إلا أننا، ومع تفتح الآفاق قبل الأعين ومع سرعة نقل المعلومة والانفتاح الإلكتروني والوعي الحقوقي، نرحب بمثل تلك الحوارات التي تنشط العقل ولا ترهنه في أوتاد العصبية الزائفة التي جُبلنا عليها لقرون طويلة.
ويرى بعض المنتجين والفنانين أنه لا ضير في تجسيد شخصية تاريخية فذة كان لها دور في البطولة والشجاعة ونشر الإسلام أو نجدة الملهوف حتى لو كان صحابيّاً أو أحد الخلفاء! لأنه سيكون ملهماً للشباب لتقليد سيرته والتمثل بأخلاقه. هذا فيما رأى بعض آخر في هذا الخصوص أنه لا يجوز لممثل غير مسلم أن يقدم شخصية مسلمة! أو أن يقدم أحدهم دور قائد عربي أو صحابي، ثم نجده بعد شهر في دور غير ملتزم أخلاقيّاً أو ذوقيّاً! وهذا رأي سديد. كما دافع البعض عن قضية تجسيد الأنبياء ومن دونهم من حيث عدم وجود نص صريح بذلك؛ خصوصاً إن كان العمل لا يُسيء للشخصية، بل يقدمها بكل وقارها ونزاهتها لتكون قدوة للآخرين.
وإذا ما سارت الأمور على ما هي عليه من شكاوى ومحاكمات ضد كل عمل تلفزيوني؛ فإننا نتوقع أن تزخر المحاكم بمئات الدعاوى على كل مشهد من المشاهد التي يعرضها التلفزيون، فمثلاً، ماذا نتوقع إذا تم إنتاج المشاهد التالية:
- خادمة آسيوية تدسّ السم لطفل! - سائق آسيوي يغتصب فتاة عربية! - طبيب من جنسية عربية يخطئ في وصفة الدواء! - هندي من طائفة السيخ يقتل مواطناً! - شباب خليجيون يسافرون للسياحة والمرح! - مدير شركة يختلس أموالاً ويهرب! - زوجة عربية تخون زوجها! - جماعة ملتحين تفجر مصنعاً في مدينة عربية! - مدير شركة توظيف أموال عربي يخطف أموال الشركة ويهرب للولايات المتحدة. - فتاة عربية تمارس أعمالاً مخلة بالآداب في وضح النهار! - انتحاريون من جنسية عربية و"سحنة" محددة يقتحمون سفارة أوروبية. - عالم دين يقنع الناس بأن البنوك الإسلامية غير ربوية، وهو يضع حساباته فقط في نيويورك أو لندن! بل ويشتري أسهماً في شركات أميركية! - ممثل كوميدي يظهر في شخصية وزير أو وكيل وزارة؛ مفنداً سلبيات الوزارة، خصوصاً الوزارات التي لها صلة بالخدمات العامة أو الشأن العام! - قتل الأخ لأخته في قضية عرض، وهي من جنسية محددة... الخ من القصص والسيناريوهات المتخيلة!
ماذا نتوقع عندما تم تجسيد مثل هذه المشاهد، إذا ما استمرت حالة "الحساسية" الفائقة ضد كل الأعمال الدرامية العربية؟ وإذا ما كان "نَهم" الحصول على مكتسبات أو تعويضات مالية فائقة وإحراج المحطات أو مؤسسات الإنتاج هو السبب الرئيسي لمثل تلك الدعاوى. إذ إننا لو محّصنا في أية لقطة تلفزيونية درامية لوجدنا فيها ثغرة أو مدعاة لأن نرفع دعوى ضدها.
إننا نعتقد أن الإبداع يجب ألا يُقابل بمثل هذه الحساسية والهجوم الشرس! وأن العمل الإبداعي ينبغي أن ينتعش في مناخ من الحرية العاقلة، التي لا تثير الفتن ولا تحرّض على الكراهية، بقدر ما تقدم الرؤية الناضجة والواعية لدور الفنان أو المنتج في فتح الآفاق وتبصير الناس بحقيقة الأمور، وتحسين أمور حياتهم، عبر النقد العاقل والصريح دون المساس بأخلاقيات المجتمع وثوابته القيمية.
وأخيراً، نشكر دورَ الإنتاج ومحطاتنا التلفزيونية والفنانين الذين أمتعونا خلال شهر رمضان المبارك؛ وإن أبكانا بعضهم أيضاً!