أخشى أن يواجه العرب والمسلمون مع حلول ذكرى 11 سبتمبر من كل عام قادم مأزقاً جديداً يخترعه لهم المتطرفون الصهاينة مثل ما فعل القس الأحمق "تيري جونز" هذا العام حين دعا إلى إحراق مئات النسخ من المصحف الشريف، ولا ندري ما الذي سيدعو إليه متطرفون آخرون في الأعوام القادمة مع حلول ذكرى الجريمة النكراء! والواضح أن الهدف هو تأكيد اتهام العرب والمسلمين بالجريمة، وتذكير الأجيال عاماً بعد عام بأن الإسلام هو "المسؤول" عن ارتكاب هذه الجريمة وما يماثلها من عمليات إرهابية. ولقد حقق "جونز" مأربه على رغم أنه تراجع عن مخططه، فقد كفاه أنه أثار القضية وجعلها حديث كل وسائل الإعلام في العالم. وقد تغيرت الإدارة الأميركية التي بدأت عصر الحروب، وبات من حق العرب والمسلمين أن يطالبوا الولايات المتحدة من جديد بحقهم في تحقيق دولي يتم عبر قضاة مشهود لهم بالخبرة والموضوعية والنزاهة، وكنا طالبنا بتحقيق دولي منذ أن ظهر الاتهام فور وقوع الجريمة، ولكن الولايات المتحدة لم تأبه للتحقيق واعتمدت على قرائن بعضها مضحك، ولكن قوة الغضب وغضب القوة جعلا العرب والمسلمين يذعنون لاتهام لم يطلع عليه أحد من قادتهم أو من رجال الفكر أو القانون لديهم على أدلته القطعية، ولم تكمل لجنة التحقيق الأميركية التي دعي هنري كسينجر لرئاستها عملها، وكانت ذريعة كيسنجر خوفه على مصالح شركته، وسرعان ما استقال نائبه جورج ميتشل بحجة الوقت، وأعتقد أن الرجلين وجدا أن الاتهام سياسي وأن الاستمرار فيه سيحملهما مسؤولية تاريخية لا تليق بمكانتهما القانونية. وقد اعتمد المحققون الذين اتهموا العرب والمسلمين على ضعف المتهمين وعدم قدرتهم على رد الاتهام، وزجوا في السجون آلافاً من الأبرياء، وعلى رغم ملايين المقالات التي انتقدت التحقيقات، والمؤلفات التي فندتها ومع تسمية التهمة بالخديعة الكبرى عالميّاً، فقد اعتمدت الصهيونية على قوة الإعلام وليس على قوة البرهان، وبات رد الاتهام عبثاً جعل بعض العرب يقرون بالمسؤولية مرغمين. وأحسب أنه لا يوجد حاكم عربي واحد قدمت إليه أدلة قاطعة بمسؤولية رعايا أمته عن الجريمة، وكان مؤسفاً أن يضطر بعض كبار المثقفين العرب والمسلمين إلى مجاراة الاتهام الذي شكك فيه حكماء كثر في العالم سرعان ما أخمدت أصواتهم، وأغلق الملف على قبول المتهم بنسبة الجريمة إليه دون سماع أقواله. ولقد كتبت عن هذا الموضوع مقالات عديدة، وكنت وما أزال من اليوم الأول لارتكاب الجريمة أرفض اتهام العرب والمسلمين دون تحقيق دولي موثوق، وأواجه مع ملايين من الذين يشاركونني هذا المطلب سخرية من يخشون ظهور الحقائق، حتى إنني شككت بوجود تنظيم اسمه "القاعدة" مسؤول عن الجريمة يوم وقوعها، وقلت ربما تكون هذه "القاعدة" قد تشكلت فيما بعد الجريمة لتقوم بأعمال إرهابية في دول العالم لتدعم توجيه الاتهام للعرب والمسلمين. وكان من المفارقات أن ينشط بعض الإعلام العربي لتأكيد التهمة، وقد اتجه بعضه بقوة إلى تبرئة الإسلام من كونه متطرفاً أو يقبل التطرف، ولتبرئة القرآن من أن تكون تعاليمه تدعو إلى العنف أو الكراهية حين استغلت وسائل الإعلام الصهيونية الحادثة ووظفتها لتشويه صورة الإسلام. وكان من المفارقات المثيرة أن بعض إعلامنا العربي لم يكتف بالاعتراف وإنما بدأ يشيد بالعملية ويعتبرها انتصاراً، بل إن بعضهم سموها غزوة مانهاتن! وهكذا وقع العرب والمسلمون في فخ الاتهام واهمين أو مضيعين، مع أن من أبسط قواعد القضاء إعلان أدلة الإدانة القاطعة. وأما الذي أعلن فهو حملات إعلامية سخرت من عقول البشر، وحسب القارئ أن يتذكر الضجيج الذي رافق ادعاء المحققين بأنهم عثروا على كتاب نسيه وأحد ممن سيقودون الطائرات المهاجمة وعنوانه "كيف تتعلم قيادة البوينغ في خمس دقائق؟"! وأنا لست هنا في معرض مناقشه الأدلة والاتهامات والقرائن السخيفة، فقد أغلقت الولايات المتحدة التحقيق ولم تطلع عليه أحداً، وكان واضحاً كما قلت في مقال لي في هذه الصفحة قبل سنين بعنوان "ليس مهماً أن تقتنع" أن المحققين اعتمدوا على أن قوة الكذبة ستجعلها حقيقة، وأن الزمن كافٍ للإدانة دون تحقيق، كما اعتمدوا على التهكم والسخرية ممن يرفض الاتهام، وسيكون رفض الاتهام موضع ريبة أكبر إذا بدا تبرئة لـ"القاعدة"، وهكذا تمت الإدانة حتى عبر الخوف من تهمة الدفاع عن "القاعدة". وأعود للحديث عن دعوة القس "جونز" لحرق القرآن الكريم لأذكّر القارئ بمضامين التصريحات الأميركية التي رفضت دعوة القس وتمحورت حول الخوف من ردة الفعل الإسلامية، ومن القلق على الجنود الأميركيين، ولم أسمع تصريحاً مسؤولاً واحداً يرفض الدعوة من معيار أخلاقي وحضاري، تلتزم به الولايات المتحدة بالحفاظ على العقائد والمقدسات، بل لقد فوجئت بتصريح مسؤول في البيت الأبيض هو "روبرت جيبس" الذي قال: "إن الولايات المتحدة لا تستطيع تجريم جونز لأن الدستور يمنع من التدخل في حريات التعبير مهما كانت درجة الهجوم"! ويبدو لي أن هذا التصريح مخجل، ويدل على حالة غير حضارية لأنه يبيح إذن لكل مواطن أميركي أن يعتدي على مقدسات الآخرين بذريعة حرية التعبير. لكن السؤال في المقابل هل يتجرأ السيد "روبرت" على انتقاد إسرائيل بضمانة الدستور الأميركي؟ لقد كان من الغريب والعجيب أن تظهر في عالم متنور هذه الدعوة الكريهة البغيضة لإحراق المصحف الشريف وهي إهانة لثلث سكان البشرية، والعالم كله يعلم أنه لا شيء أقدس عند المسلمين من القرآن الكريم، وهم لا يقدسونه وحده، وإنما يقدسون كل الكتب السماوية. وعلى رغم كل الصراعات والحروب الصليبية التي اتخذت من الدين ذريعة لم يظهر شخص أحمق في العالم الإسلامي دعا يوماً إلى إحراق كتاب سماوي، وها نحن في صراعنا المديد مع الصهيونية التي اعتمدت التوراة مرجعية فكرية لم نسمع قط عن دعوة إلى إحراق التوراة، بل إن المسلمين في العالم أجمع يعادون من يهين رسولاً أو كتاباً مقدساً، فالأنبياء جميعاً مقدسون عندنا، ونحن لا نحترم الأديان السماوية وحدها، وإنما نحترم حرية الاعتقاد، وحسبنا دليلاً أن كل الديانات السماوية والوضعية موجودة في بلادنا، وأجدادنا المسلمون الأوائل رأوا في بلاد الشام وفي مصر وفي خراسان وخوارزم (أفغانستان) وسواها من البلدان أصناماً وتماثيل ومقدسات لا يؤمن بها الإسلام، ولكن المسلمين صانوها وحفظوها، ولولا حفظهم لها لما كانت خالدة إلى اليوم آثار تدمر وأسوان وتماثيل بوذا والمعابد الأثرية بما فيها من رموز ومقدسات عند أتباعها لم يمسسها مسلم بسوء.