بوصلة الاستثمارات الخليجية
على رغم مرور الاقتصادات العالمية بأزمة حقيقية منذ سنتين، وما نتج عنها من تضاؤل حجم الاحتياطيات النقدية لدول الخليج العربية، إلا أن هذه الدول تعتبر ثاني أكبر مصدر لرأس المال والاستثمار في دول المشرق العربي.
فحجم الاستثمارات الخليجية في بلدان المشرق والمغرب العربيين وصل إلى 70 مليار يورو، أو نحو 90 مليار دولار خلال السبع سنوات الماضية. وحسب دراسة حديثة صدرت عن المعهد الإيطالي للشؤون الدولية فإن دول الخليج العربية تستثمر بشكل مباشر، وعبر شركاتها المتعددة في هذه الدول، وتركز استثماراتها على دول بعينها، هي مصر وتونس وتركيا والأردن وسوريا.
والحقيقة أن موجة الاستثمار العربي في بلدان المشرق مرت بحقبتين أساسيتين، كانت الأولى منهما خلال فترة السبعينيات، وركزت تلك الاستثمارات، خاصة الحكومية منها، على مشاريع البنية التحتية في الطرق والموانئ والجسور، وغيرها من المشاريع الضخمة. أما الموجة الثانية من مشاريع الاستثمار الخليجية في العقد الأول من هذا القرن فتتركز في مشاريع ذات عائد سريع مثل مشاريع العقار وبناء الفنادق والشقق والمنتجعات، وكذلك في مشاريع الاتصالات الهاتفية.
ويخيل إليَّ أننا بصدد الدخول في موجة جديدة من الاستثمارات العالمية، وما خلفته من مديونيات وإشكالات، يتحتم على اقتصادات دول الخليج أن تتعافى بعون الله منها خلال الثلاثة أو الأربعة أعوام القادمة.
والموجه الثالثة ستركز على الاستثمار في مجال الزراعة وإنتاج المحاصيل والمواد الغذائية، وهي مرحلة قد بدأت بالفعل، حيث تتجه الشركات الخليجية في وقت الحاضر إلى بلدان إفريقيا، وبعض البلدان الآسيوية، للاستثمار في مجال زراعة الأرز وغيره من المحاصيل والفواكه. وقد واكبت موجة الاستثمار الثالثة سلسلة من الاتفاقات الثنائية بين دول الخليج العربية والبلدان المستقبلة لهذه الاستثمارات، لوضع قواعد قانونية تحكم ضمان الاستثمار وعدم ازدواج الضرائب على أرباحها.
ثم إن بين يدينا دراسة كتبها كل من "بنديكت دي سانت لوران" و"بيير هنري" و"سمير عبدالكريم" وجميعهم من مرصد الاستثمارات في مارسيليا بفرنسا "أنيما"، وتذكر هذه الدراسة أن دول الخليج العربية قد استفادت من الموفورات المالية التي أتاحتها لها مداخيلها النفطية العالية، واستثمرت في نحو 700 مشروع في بلدان المشرق العربي. وبلغت هذه الاستثمارات أوجها بين عامي 2006 و2007 لتصل إلى 20 مليار "يورو" في السنة، إلا أنها تراجعت عام 2009 إلى نحو 6.5 مليار سنويّاً، بسبب تداعيات الأزمة المالية العالمية. وقد مثلت هذه الاستثمارات نحو 27% من حجم الاستثمارات العالمية الموجهة لهذه المنطقة، وبينما ركزت الدول الأوروبية على مشاريع الطاقة في بلدان المشرق والمغرب العربيين، استثمرت دول الخليج العربية وشركاتها في مشاريع الطرق والعقارات (40%) وكذلك في قطاعي الاتصالات والبنوك (15% و11% على التوالي).
وقد استحوذت كل من مصر وتركيا والأردن على النصيب الأعظم من هذه الاستثمارات. وبرزت الإمارات العربية المتحدة كأكبر مصدر لرأس المال، حيث استحوذت شركاتها على نحو ثلث الاستثمارات، وتلتها كل من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت.
وبرزت من بين الشركات الخليجية الفاعلة في مجال الاستثمار شركات ماجد الفطيم و"إعمار" و"دبي القابضة" من الإمارات، وكذلك شركات صافولا وبن لادن والراجحي ودلة والبركة و"سعودي أوجيه" من المملكة، وشركة "ليبكو" والخزافي، و"كيوتل" من قطر.
وحين تحدثت الدراسة عن حجم الصناديق السيادية الاستثمارية جعلت الصين تحل في المرتبة الأولى، حيث بلغت حجم صناديقها الاستثمارية عام 2009 تسعمائة وعشرين مليار دولار، مع احتساب صندوق هونج كونج السيادي الذي تبلغ احتياطياته139 مليار دولار من المجموع الأصلي. أما صناديق السيادة الاستثمارية الخليجية، فقد بلغت في نفس التاريخ معدلات عالية بحسب البيانات المذكورة.
ولاشك أن احتياطيات هذه الصناديق هي احتياطات عالية، وبعكس فترة السبعينيات، فإن مقدرة الاقتصادات الخليجية على امتصاص فائض الثروة النفطية تعتبر أيضاً مقدرة عالية كذلك. وتعتبر الدراسة أن الاستثمارات الخليجية في بلدان المشرق العربي قد خلقت نحو 121 ألف وظيفة بشكل مباشر في هذه البلدان، وضعف هذا العدد بشكل غير مباشر. إلا أن تركز هذه الاستثمارات في مجالات البناء والعقارات يجعل بعض هذه الوظائف ذات طبيعة مؤقتة.
والحقيقة أن ذهنية الربح السريع لاتزال مهيمنة على فكر المستثمر الخليجي بشكل كبير، سواءً في استثماراته الخارجية أو في استثماراته الداخلية. وقد آن الأوان للتفكير بشكل أعمق في عمليات الاستثمار والنظر في الاستثمار في صناعات متطورة خاصة في مجال تشكيل الألمنيوم والحديد والدخول إلى الجيل الثاني والثالث من الصناعات البتروكيمياوية والأدوية، وكذلك في مجالات التقنية الحيوية.
وعلى الرغم من المحفزات الحكومية وغياب الضرائب على الشركات الخليجية، إلا أن القطاع الخاص الخليجي لم يحقق قدراً كافيّاً من الوظائف للمواطنين المحليين. وقد يواجه هؤلاء المستثمرون في الأمد القريب ندرة وجود اليد العاملة شبه الماهرة والرخيصة من البلدان المصدرة للعمالة مثل اللحامين والنجارين والكهربائيين، وغيرهم من ذوي الخبرات المتوسطة. وفي ظني أن هناك مسؤولية اجتماعية تقع على هذه الشركات بضرورة الإسهام بقدر موازٍ من إيجاد وظائف للشباب من المواطنين الذين يطرقون أبواب العمل، ولم تفتح لهم هذه الشركات أبوابها إلا في وظائف ذات دخول متدنية، مثل الحراسة.
وربما تظهر الحاجة قريباً للتدريب على رأس العمل، أو بالقرب من موقع العمل. فالشركات الحكومية الضخمة مثل "أرامكو" مارست هذا النشاط مذ أمد بعيد. وهناك عدد قليل من شركات القطاع الخاص التي أنشأت معاهد شبه مهنية مرتبطة بهذه الشركات، وينبغي تعميق التفاهم والحوار بين الثلاثي المؤلف للصناعة والتجارة في البلدان الخليجية، وهي القطاع الخاص ووزارات العمل، وقطاع العمال متوسطي المهارات من ذوي الياقات الزرقاء. فتطلع الشباب للعمل في الوظائف الإدارية ينبغي أن تحل محله أجور أعلى وفرص متاحة في قطاع فني متوسط، يمكّن هؤلاء الشباب من الحصول على مرتبات تكفي لتكوين عائلات جديدة وتخفيف حدة البطالة.
وحين لا يجد المستثمر الخليجي الأيدي العاملة الأجنبية الكفؤة، فإنه سيلجأ في النهاية إلى المواطن لتدريبه على مثل هذه الأعمال.