"أهداف الألفية؛... حصيلة متواضعة
خلال الدورة الأخيرة لاجتماعات الأمم المتحدة بنيويورك، سمعنا العديد من الخطابات، التي جاء قادة الدول من رؤساء وملوك لإلقائها على مسامع المجتمع الدولي، وكان الموضوع خلال هذه الدورة مراجعة وتقييم ما وصلت إليه أهداف الألفية الإنمائية، التي سطرتها الأمم المتحدة مطلع العقد الجاري.
وقد حرص المتحدثون على التذكير بالتزام دولهم بتلك الأهداف واستمرار الدعم الحكومي لها من خلال احترام نسب المساعدات التي حددتها الأمم المتحدة عند إطلاقها للأهداف.
وعلى غرار قمم الجمعية العامة للأمم المتحدة أسهب قادة الدول عبر خطاباتهم في قطع الوعود والتعبير عن الآمال والمتمنيات والتشديد على الالتزامات الدولية وضرورة احترام الحكومات في البلدان المتقدمة لحصصها من المساعدات الموجهة للدول الفقيرة.
والحقيقة أن الخطابات تلك لم تخرج عن المواعظ المكرورة والعبارات الرنانة التي دأبنا على سماعها طيلة السنوات السابقة، وهي الخطب العصماء التي تذكرنا بما يلقيه السياسيون في البرلمانات والمحافل العامة من تعهدات، تبقى في الغالب حبراً على ورق، لذا فقد لا نلوم في هذا السياق مشاعر الشك التي تراود المتتبعين لما يجري في القمة الأممية بالنظر إلى الهوة الشاسعة، التي تفصل بين وعود قادة الدول والأهداف النبيلة المسطرة للخروج من الفقر وبين الواقع الدولي في البلدان الفقيرة واستعصاء المشكلات الكبرى عن الحل، بحيث تظل الجهود الدولية محدودة في أثرها كما يبقى الفقر منتشراً على نطاق واسع. ولعل الأرقام التي تطلقها الأمم المتحدة نفسها كفيلة بزرع مزيد من التشاؤم حول نجاح الأهداف الإنمائية وبلوغها المرامي المقصودة.
فمع أن المساعدات الدولية الهادفة إلى تعزيز التنمية وصلت هذا العام إلى 120 مليار دولار، إلا أنها تبقى متواضعة بالمقارنة مع رقم 1500 مليار دولار الذي أنفقته الدول على الاقتصادات المتعثرة بعد اندلاع الأزمة المالية الأخيرة، حيث سارعت الحكومات في العالم المتقدم وغيره إلى ضخ مبالغ طائلة لمعالجة الاختلالات الاقتصادية الناجمة على الركود العالمي، دون أن ننسى ما تكلفه الحروب الأميركية في العراق وأفغانستان التي فاقت 150 مليار دولار في العام.
فهل نستنتج مما سبق أنه لا طائل من قمم الأمم المتحدة، وأنه من الأفضل الانصراف عنها إلى ما هو أجدى وأكثر فائدة للمجتمع الدولي؟ الإجابة هي بالتأكيد لا، إذ رغم الحصيلة الهزيلة للأمم المتحدة في التعامل مع معضلة الفقر وعدم احترام العديد من الدول لالتزاماتها في هذا الصدد، فإن هذه اللقاءات الدولية التي تحتضنها الأمم المتحدة تساهم على الأقل في تذكير الدول بتلك الالتزامات وحثها على الوفاء بتعهداتها من خلال إبراز الخطر الذي يتهدد العالم باتساع رقعة الفقر وتراجع نسب التنمية في البلدان الفقيرة، كما أنها تجند الرأي العام الدولي ومن خلفه المنظمات غير الحكومية لممارسة المزيد من الضغوط على الدول والحكومات للاستمرار في دعم مسيرة التنمية وتحقيق الأهداف الإنمائية كما رسمتها الأمم المتحدة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدول الفقيرة ما كانت لتستفيد من المعونات الحالية لو لم تحدد الأهداف الإنمائية رغم كل ما يشوب تطبيقها من اختلالات وأوجه قصور؛ وترجع هذه الأهداف التي اكتسبت شهرة عالمية، بالنظر إلى الآمال العريضة المعلقة عليها، إلى سبتمبر من عام 2000 عندما اعتمدت الأمم المتحدة ثمانية أهداف كبرى للألفية الثالثة، يتعين الوصول إليها مع نهاية العام 2015، وتشمل القضاء على الفقر المدقع والجوع وتعميم التعليم الابتدائي، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتخفيض معدل وفيات الأطفال، وتحسين صحة الأمهات ومكافحة الفيروس المسبب لداء فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز) بالإضافة إلى الحرص على الاستدامة البيئية وإقامة شراكات عالمية، لكن سرعان ما تبين من خلال التقييم الدوري للأهداف أنه من الصعب تحقيقها في الموعد المحدد، وذلك حتى قبل ظهور الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، التي لا يمكن تحمليها مسؤولية التقصير في بلوغ الأهداف الإنمائية، ففي الوقت الذي التزمت فيه جميع الدول المتقدمة بتخصيص نسبة 7.0 في المئة من ناتجها الإجمالي المحلي لتعزيز التنمية في الدول النامية لم يفِ بهذا الالتزام سوى خمس دول، ما جعل الموازنة العامة لأهداف الألفية تشهد عجزاً يصل إلى 35 مليار دولار سنوياً، تحول دون تجسيدها على أرض الواقع، وهو المبلغ الذي يمكن إتاحته لو توافرت الإرادة السياسية لدى الدول الغنية بحيث يبدو أن الدول المتقدمة لا تستشعر أي استعجال في الموضوع خلافاً للأزمة الاقتصادية التي دفعت الدول إلى التدخل السريع لإخراج الاقتصاد من وعكته.
ورغم إدراك الدول للواجبات الملقاة على عاتقها تجاه الدول الفقيرة سواء من الناحية الأخلاقية، أو السياسية وضرورة التحرك لتطويق الفقر والقضاء عليه، إلا أنها ترى أولويات أخرى تستحق الاهتمام، فضلا عن الموارد المالية الشحيحة، وباختصار تعتقد الدول الغنية أنها ليست في عجلة من أمرها، وأن الأهداف الإنمائية يمكنها الانتظار، وهو الموقف المختلف تماماً عن الطريقة التي تعاملت بها الدول والحكومات العالمية مع الأزمة الاقتصادية، هذا الواقع الدولي الذي يستصعب تمويل الأهداف الإنمائية ويستثقل على الخزينة العامة للدول المساهمة فيها أفرز طروحات جديدة أهمها ما يعرف حاليا بـ"التمويل المبتكر"، لكن الخوف أن تتحول هذه التسمية إلى غطاء لتبرير تقصير الدول في الوفاء بالتزاماتها المالية والالتفاف حول تعهداتها بتخصيص 7.0 في المئة من ناتجها الإجمالي المحلي لتمويل الأهداف الإنمائية.
وقد أشار ساركوزي في هذا الإطار إلى تمويل بديل من خلال دعوته إلى فرض ضريبة على التعاملات المالية في سوق الأسهم تعوض النقص الحاصل في التمويل الحكومي، لكن رغم الوجاهة التي ينطوي عليها الاقتراح الفرنسي تبقى الصعوبة في إقناع باقي الدول بفرض الضريبة، وهو أمر دونه خرط قتاد؛ ولا بد من الاعتراف أيضاً أن الدعم الحكومي للتنمية في الدول الفقيرة ليس دائماً هو الحل لمحاربة الفقر والحد منه، فقد رأينا كيف تمكنت الصين من انتشال أكثر من 400 مليون مواطن من وهدة الفقر دون الاعتماد على المساعدات الخارجية، بل فقط بتحريك عجلة الاقتصاد والاستناد إلى قدراتها الذاتية.