الديمقراطية: "الفريضة" الغائبة!
يُحتفل كل عام، في يوم الخامس عشر من سبتمبر باليوم العالمي للديمقراطية، وذلك بناء على ما تقدم به الاتحاد البرلماني الدولي عام 1997 من اقتراح اعتماد يوم عالمي للاحتفال بالديمقراطية؛ ضمن المظاهر والمبادرات الحضارية الهادفة إلى رفع قيمة الإنسان وتجنيبه المخاطر وتحقيق العدالة والمساواة بين جميع البشر، دونما تمييز بينهم فيما يتعلق بالعرق أو الجنس أو اللون أو الاتجاه الفكري؛ وذلك استناداً إلى المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تقول: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وُهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يُعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء". وكذلك المادة الثانية من الإعلان التي تقول: "لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز؛ كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة او الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء".
وللأسف؛ فإن الممارسة الفعلية قد اجترأت أحياناً على حق الإنسان الموضح أعلاه، وفي غير ذلك من المواد المثبتة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقامت بعض النظم بممارسات غير مناسبة ضد مواطنيها.
فمن حيث الحريات، تمت صياغة قوانين حجّمت، بل صادرت حريات الناس! وحرموا من حقهم في مشاهدة ما يشاءون أو قراءة ما يريدون قراءته. بل ومنعوا من أكل ما يشاءون نتيجة بعض النظم القمعية التي تحظر الاستيراد من الخارج "حفاظاً على الاقتصاد المحلي المنهار"!
ومن حيث الحريات أيضاً تم وضع الإعلام تحت رقابة صارمة لوزارات الإعلام. وأصبح المواطن يقرأ أو يسمع أو يشاهد ما يريده النظام لا ما يريده هو! ودون أدنى حق له في المشاركة في ذلك الإعلام. وقد أوردنا ذاك الإعلام المتسلط -الذي حكمه العسكر ردحاً من الزمن- موارد الخيبة واليأس عندما خَدعنا في الحروب، وقلبَ لنا الحقائق، وحوّل هزائمنا إلى انتصارات وهمية، وضحك على عقولنا. وعندما وصلنا إلى عصر الفضائيات والتجاوز الإخباري والمعلوماتي؛ ظلت بعض النظم تمارس عاداتها القديمة في المنع والتقنين دون النظر إلى حتميات حقوق الإنسان. بل وفي عصر الإنترنت أيضاً ارتفعت حدة التجاوزات على حقوق الإنسان في التدخل فيما يرسله أو يستقبله. كما تم منع العديد من الكُتاب العرب من ممارسة حق التعبير، في مخالفة صريحة للمادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير؛ ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية". وللأسف، فإن العديد من النظم التي صادقت على الإعلان ما زالت تمارس سلوكيات تخالف نصوصه.
وتم تهميش أي كاتب يخالف الرأي الرسمي -ولو كان مُصيباً! مما قد يدفعه -في بعض الظروف- لأن ينكفئ على ذاته، في الوقت الذي يعربد العابثون بأقدار الناس في وضح النهار.
كما ظهر طبقاً لهذا التوجه الكُتّابُ "المداحون" الذين قد يخفون الحقائق ويلمّعون "الإنجازات" دون وجه حق. ونجح هؤلاء في التقرب لجهات القرار ونالوا "شرف" انتمائهم لأوطانهم وحصلوا على وظائف عالية وامتيازات لهم ولأحفادهم عبر ممارسة الكذب دونما أي اعتبار لعقول المتلقين أو كرامة الآخرين. وهكذا تفتقت عقولُ الخبراء "المحيطين" عن تصنيف الكُتّاب إلى "فسطاطين ": فسطاط "غير المغضوب عليهم" وفسطاط "المغضوب عليهم" دون وجه حق، وبمعادلة غير عادلة. ولن يمر وقتٌ طويل حتى تكتشف بعض النظم أن "غير المغضوب عليهم" لم يساهموا في بناء أوطانهم؛ بل أساءوا إلى أصحاب القرار عبر إخفاء الحقائق، وأن "المغضوب عليهم" هم الأحق بالاحتفاء والتقدير والتكريم.
ولغياب الديمقراطية -وهو السبب الرئيسي في اختلال ميزان العدالة والكرامة الإنسانية- فقد عانت بعض الدول العربية من سيادة قانون الطوارئ الذي يمنح متنفذي بعض النظم وضعاً فوق القانون أو الدستور، ومن يعارض آراءهم يصنف ضمن الفئة "المارقة" التي تريد أن تدمّر الأمة وتعبث بمقدراتها. وطبقاً لذلك ظهرت النزعات الإثنية، وبرزت الطائفية والانتماء للمذهب السياسي أو الثيوقراطي، دون الانتماء للوطن الواحد. واستشرى الفساد بقيادة "أمراء الحرب"، وتفرق الشعب، ووهنت الوزارات وانتشرت المحسوبية وأصبح الوطن "عالة" على أشقائه العرب. بل وأخذ أحياناً المسؤول يقرّب إليه أبناء طائفته أو عائلته وإن كانوا غير مؤهلين. وأصبح المدير يعادي من يختلفون معه في التفكير، أو الذين يتفوقون عليه علماً وخبرة. ونشطت جرّاء ذلك الدسائس، وتفننت الجهات المختصة في إسكات الأصوات المنادية بالعدالة أو الديمقراطية.
ولغياب الديمقراطية انتشرت الثقافة الاستهلاكية، وتم تسليع السلوك، وقويت الدولة الريعية، خصوصاً في الدول الغنية، وغابت عن الناس أهمية التفكير في أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، فمُسخت هويتهم وضاع مستقبل أبنائهم. ولم يعد لهم دور في شكل مناهج التعليم أو سياسات التوظيف، أو بناء المشاريع الضخمة، وغيرها من الأمور الاستراتيجية المتعلقة بمستقبل الأبناء وأمان الأوطان. وكم من نظام عربي قاد شعبه من هزيمة إلى أخرى، حتى سقط دون رحمة! وفي مناخ الاستئثار وغياب الشفافية تنمو مخالبُ بعض المتنفذين، وقد تمتلئ خزائنهم بالأموال دون وجه حق، وذلك بوضعهم غطاءات قانونية تبرر لهم ما يقومون به، دون محاسبة من مجلس أو جهة إشرافية نزيهة؛ أو إعلام حر.
ولغياب الديمقراطية ضاعت الحقوق، ورُهنت العدالة في خانة بعض الدول، التي صاغت قوانين مؤيدة لتصرفاتها دونما التفات لحقوق الناس سواء في العيش الكريم أو توفير فرص العمل. بل لجأت بعض الدول -لذر الرماد في عيون المجتمع الدولي- إلى تكوين جمعيات "غونغوز" (Governmental Non-Governmental Organizations) أي جمعيات حكومية - غير حكومية، تؤيدها في كل إجراءاتها دون وجه حق.
ولغياب الديمقراطية أصبحت بعض العقول المستنيرة المطالبة بالإصلاحات "عدوة" للدول أو تصنف على أنها تمارس "المشاكسة" ضد النظم. وتلك تهمة لا يجوز أن تُلصق بالشرفاء المنادين بتطور مجتمعاتهم وتنويرها والأخذ بيدها نحو الغد الأفضل. فالأكاديمي المتخصص إن تحدث عن تطوير مناهج التعليم كما درسه في الجامعات الأوروبية والأميركية المتطورة -بما يخالف رؤى بعض المستفيدين من النظام- اعتبروه منافساً في القرار، أو معارضاً لاستشارات بيوت الخبرة الأجنبية "التي لا تنطق عن الهوى"! والمدير الفني -الخبير بشؤون إدارته- إن خرج على نمطية الإدارة التقليدية، وجاء بروئ جديدة لم تألفها عينُ النظام، اعتُبر مغامراً وأخرق، ولذا يتم طرده من وظيفته، والإتيان بشخص تقليدي يمارس البيروقراطية وكأنه يعيش عقد الستينيات. وطبقاً لذلك، امتلأت الإدارات بأنصاف المتعلمين والخريجين الجدد الذين لم تصقلهم الحياة ولم يتعلموا التعليم الجاد الذي نهله الجيل السابق عليهم، وبذلك هبط مستوى الإنتاجية وعانت الإدارات التكدس الوظيفي والبطالة.
ولغياب الديمقراطية ظهرت آفات العصر من حروب وصفقات، ومخدرات، و"أنا وابن عمي على الغريب"، ومن منافقين، وبيع أوطان، وإعلام تضليل، وهجرة غير مقننة أضاعت حقوق المواطنين ومسخت هوياتهم، وارتفاع أسعار، وتدني الخدمات الأساسية.. وغيرها.
حريٌّ بنا، أن ندرس الديمقراطية من جديد، ولا نضمنها خطبنا ومقالاتنا إن لم نكن نؤمن بها وبحتميتها في المساس بمكتسباتنا إن لم تكن عادلة.