خلال العقد الماضي، وفيما لا يقل عن تسع حالات، نشرت القوى الغربية قواتها في مختلف أنحاء العالم، وأنفقت عليها من الأموال المقتطعة من جيوب دافعي الضرائب الغربيين، باسم شعار بناء الأمم. وتمتد قائمة هذه الحالات من الصومال، مرورا بكل من هاييتي، البوسنة، سيراليون، تيمور الشرقية، أفغانستان، وصولا إلى العراق. وعند النظر إلى النتائج النهائية التي خرجنا بها من كل تلك الحالات، فإن غالبيتها لا تزال عاجزة عن تصريف شؤونها بنفسها كما ينبغي، بينما تحول البعض منها، إلى خطر ماحق يهدد أمن مواطنيه في الداخل، قبل أن يتحول إلى كابوس مرعب، يهدد أمن المصالح الأميركية في تلك البلدان. كما يصعب جداً تفادي القول أيضا، إن رغبتنا في حمل وزر تلك الأمم والدول الفاشلة أو المأزومة وإصلاحها، قد فاقت كثيراً قدرتنا أو رغبتنا الواقعية في إعادة بناء تلك الأمم، وحل مشكلاتها.
وعند النظر إلى ما يشهده العراق اليوم، فإنه يعد المثال الأكثر اضطراباً وتعقيداً بين كل محاولات بناء الأمم السابقة. وفيه تحول شعار بناء الأمم، إلى عنصر رئيسي من عناصر السياسة الخارجية الأميركية. كما ألقى العراق بتأثيراته العميقة على السياسة الداخلية الأميركية أيضاً. وبحسب علمي، فإنه لم يعد ممكنا لأي من المرشحين الرئيسيين في انتخابات نوفمبر المقبل من هذا العام، أن يدعو- كما فعل الرئيس بوش في انتخابات عام 2000- إلى فكرة إرسال القوات والجنود الأميركيين إلى خارج الحدود، خدمة لشعار بناء الأمم هذه. كما لا يتوقع أن يجرؤ بوش ولا منافسه الديمقراطي كيري، على طرح أية مشروعات عملية في هذا الاتجاه مستقبلا. فقد تضاءل الدعم السياسي الداخلي الذي تحتاجه مثل هذه السياسات كثيراً في الآونة الأخيرة، نتيجة لارتفاع عدد القتلى بين الجنود الأميركيين في العراق.
ويعود السبب وراء تراجع الحماس لشعار "بناء الأمم" لازدياد الوعي بأن هذه العملية تعني الاحتلال الكامل لأمم منهارة أو مهزومة أو فاشلة، وإعادة تشكيلها من نقطة الصفر تقريبا، بكل ما يتطلبه ذلك من تكلفة مالية وعسكرية وسياسية باهظة، وغير مضمونة النتائج. لذلك، فربما يكون حماس الجمهور والسياسيين أكبر للاتجاه الآخر، الرامي إلى دعم عمليات السلام في مثل تلك الدول. ويتلخص هذا الاتجاه في تقديم الدعم الاقتصادي والفني والإنساني للدول المعنية، فضلا عن دعم عمليات السلام التي تجري في بعضها، عسى أن تخفف من التكلفة الباهظة المترتبة على التدخل العسكري المباشر الذي تقتضيه بعض الحالات.
غير أن ذلك لا يمنع المجتمع الدولي من الاعتداد بتجارب ناجحة في عدد من الدول المأزومة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم. فقد استطاع المجتمع الدولي وضع حد لحروب طاحنة في كل من البوسنة وسيراليون، وإنقاذ أرواح مئات الآلاف من المواطنين الصوماليين، إلى جانب وقفه لعمليات التطهير العرقي التي شهدتها كوسوفا. إلى ذلك أيضا، يضاف إنجاز تنظيم العملية الانتخابية في كل من كمبوديا، تيمور الشرقية، وأفغانستان. كما أسهم المجتمع الدولي في اقتلاع عدد من طغاة تلك البلدان وجبابرتها، من أمثال صدام حسين، "تشارلس تايلور"، "سلوبودان ميلوسوفيتش"، والملا عمر.
ولكن تظل النتائج النهائية لعملية بناء الأمم، محبطة ولا يمكن الاعتداد بها بشكل عام. دونك ما حدث في كل من ليبيريا وهاييتي. وفي الصومال واجهنا فشلا كاملا، تمثل في الانهيار الكلي لجهاز الدولة، وهو الوضع الذي استثمره تنظيم "القاعدة" لصالحه. وحتى تيمور الشرقية، التي يفاخر العالم بحكم تحريرها وإعلان استقلالها، بأنها قصة باهرة ناجحة، من قصص بناء الأمم، لا تزال عاجزة عن تصريف شؤونها بنفسها، وبدون التدخل المستمر من جانب الأمم المتحدة. ثم خذ مثالا آخر هو البوسنة وكوسوفا. والشاهد أن هاتين الحالتين، عادة ما تقدمان على أنهما المثال الأكثر سطوعا على جدوى التدخل المباشر، وبناء الأمم. لكن وعلى أرض الواقع، فقد أنفقنا مليارات الدولارات هناك للإبقاء على حياة المواطنين، دون أن ننجح فعلياً، في بناء دولة، بمعنى الدولة في أي منهما. فها هي العشر سنوات بالتمام والكمال كادت تمر، ولا تزال البوسنة مجرد شبه دولة. فالحكومة المركزية هناك، لا تزال تعتمد اعتماداً كبيراً على المساعدات الدولية، ولا تتمتع إلا بقدر محدود جداً من السلطة والصلاحيات.
أما في "كوسوفا"، فلا تزال معضلة "الوضع النهائي" التي تواجهها- إما الوحدة القومية داخل صربيا أو الاستقلال عنها- مستعصية وبعيدة عن الحل، بقدر ما كانت في ذلك اليوم الذي قصفتها فيه الطائرات الأميركية، قبل نحو خمس سنوات خلت. بدلا من ذلك، فإن "كوسوفا" تعد اليوم "لا دولة فاشلة". أما رغبة المجتمع الدولي في إرجاء هذه المعضلة للمستقبل، فقد أسفرت عن إبطاء إعادة البناء الاقتصادي، وكذلك إبطاء التقدم الجاري باتجاه المصالحة القومية، إضافة إلى إشاعة حالة من الشك واللايقين على امتداد منطقة البلقان بأسرها. والنتيجة النهائية التي توصلنا إليها هناك، هي أننا نجحنا