فجر... جديد
كثيراً ما تحدث المثقفون العرب عن موت أمتهم مع أن سؤال نزار قباني الشهير "متى يعلنون وفاة العرب؟"، كان سؤال تحريض لإعلان ولادة، وقد رآها منذ أن بدأت انتفاضة شعب فلسطين، تولد في عيون أطفال غزة الذين تعلم منهم أشقاؤهم العرب فن رمي الحجارة، وقد كبر هؤلاء الأطفال وصاروا شباباً، وأدركوا في كل أنحاء الوطن العربي أن الثورة ضد إسرائيل ليست فقط داخل الأرض المحتلة. ولقد شجع الغرب الديكتاتوريات في الوطن العربي، وعزز بعض الأنظمة حتى حين كان يعلن أنه قادم لترسيخ الديمقراطية، وقد أظهرت ثورتا تونس ومصر حقائق كثيرة لم تعد خافية على أحد، وهي من البديهيات التي ينبغي فحصها باستمرار.
وأهم هذه الحقائق هي أن الثورة العارمة تظهر من تحت الرماد، ولا تأتي من النخب، وأن معظم النار يأتي من مستصغر الشرر، ولم تكن أجهزة الاستخبارات العالمية تتوقع أن يوقد ثورة تونس بائع خضار، وأن يفجر ثورة مصر شبان يكتبون على صفحات "الفيس بوك"، وأن تدعو بنت محجبة زملاءها إلى الاحتجاج فيرافقها مئة وخمسون شاباً أو أقل، ثم فجأة يصير أضعافاً من شعب مصر.
وهذا لا يعني أن ما فعلته النخب لم يكن مفيداً، فقد كان تعبئة فكرية هي الوقود الأول، ولكن شارة الانطلاق لم تأتِ من نخبة سياسية، ولا من قيادات حزبية أخفقت على مدة عقود في أن يكون لها حضور حقيقي في عمق الشارع، بل إن بعض الأحزاب التي تعلن أنها تمتلك إرادة الإصلاح أو التغيير، تتشهّى كرسيّاً ولو من القش في جهاز الحكم، وبعض هذه الأحزاب هياكل كرتونية لا فلسفة لها ولا فكر ولا عقيدة ولا قواعد لها عند الشعب، وبعضها له تاريخ ولكن ليس له مستقبل، فهو يقتات من تجارب بالية، كشف الشارع خواءها.
ومن الحقائق التي أظهرتها الثورتان، أن إسرائيل تستمد الدعم الحقيقي من بعض الأنظمة، فمجرد الهتاف برحيل نظام ما، أصاب الولايات المتحدة بالاضطراب والتخبط، وكان طريفاً أن البيت الأبيض وجد فرصة لملاعبة إسرائيل بالتصريحات، فليس سرّاً أن قادة كباراً في الولايات المتحدة يشعرون أنهم ضعفاء أمام قادة إسرائيل، ويعرفون أن نتنياهو هو صاحب القرار في البيت الأبيض، وقد تمكن من أن يحرج الرئيس الأميركي على رغم أن الأخير اختزل القضية الفلسطينية وكل وعوده بالسلام في المنطقة إلى مطلب صغير هو تجميد مؤقت للمستوطنات، ومع ذلك لم تقبل به إسرائيل، بل جعلته يتراجع مرغماً، ولعله وجد فرصة لمداعبة نتنياهو حين لوح بقبول البيت الأبيض بسقوط النظام، وبالطبع سارع قادة أميركا لتغيير تصريحاتهم بعد أن هرع الإسرائيليون يعلنون على الملأ أن بقاء النظام هو ضمان الأمن والمستقبل.
وكان مما كشفته الثورتان أن بعض الأنظمة هي التي تفتعل الإرهاب، وسيكشف المستقبل كثيراً من الحقائق الغامضة حول عشرات التفجيرات والاغتيالات التي حدثت واتهم بها أبرياء، وكثير منها اتهم به الإسلام تحت يافطة الفزاعة المسماة "القاعدة" التي أسستها أجهزة استخبارات أميركية صهيونية وهدفها تشويه الإسلام والمسلمين.
كما كشفت الثورتان أن كل الثقافات المهجنة التي اشتغل عليها المستغربون ومن وقعوا فريسة أوهام دعاة "الشرق الأوسط الجديد" ومن أعلنوا أن العولمة انتصرت وأن العروبة والإسلام خرجا من العصر الذي بات يهوديّاً صهيونيّاً، قد سقطت كلها، وبدا واضحاً أنها لم تؤثر شيئاً يذكر في الشارع العربي، وأن العروبة جذر أصيل في نفوس الشباب، حتى وإن كانت شعارات الثورتين وطنية قُطرية إلا أن التفاعل العربي كشف عن جذورها العربية المتينة، كما أن الإسلام بوصفه ثقافة الأمة كان حاضراً دون أن يكون مخيفاً كما أشاع أعداؤه، فحتى التنظيمات الدينية التقليدية بدت أقل شأناً في مسار الفعل مما كان يروج له.
كما أبرزت ثورة مصر كذب الادعاءات حول خطر وضع الأقليات، وحول توتر بين المسيحية والإسلام، فقد تحول ميدان التحرير إلى ساحة وطنية كبرى تشهد تلاحم الشعب المصري دون النظر إلى ما فيه من عقائد وإثنيات عاشت قروناً في لحمة واحدة وثقافة راسخة تقوم في أساسها على التنوع والتعددية، والمسيحية بشكل خاص ليست طارئة في الوطن العربي، فهي أقدم من الإسلام فيه وهي جذر مؤسس في ثقافتنا الإسلامية.
والثورتان تبدآن عصراً جديداً في الأمة، تنتهي فيه عقلية القمع والاستبداد، وتستعيد فيه المواطنة حقوقها الشرعية، وتبدو ثورة مصر ثورة كرامة، فالذين قاموا بقيادة الثورة من الشباب ليسوا من الفقراء العاطلين عن العمل، بل هم ينتمون إلى طبقات متوسطة وبعضها طبقات ميسورة، والشاهد أن ثورتهم رسمت في الإنترنت، ولكنهم وطنيون أحرار كانوا يشعرون بالذل يوم كان أولمرت يقصف غزة، ويوم كانت إسرائيل تقصف جنوب لبنان.
لقد كنا في سوريا نستشعر هذا الألم في عيون أشقائنا المصريين، ولاسيما حين كانت صحافة مصر تنتقد سوريا وتسخر من دعمها للمقاومة وتبذل المحال لكي تفشل القمة في دمشق ثم لتفشل القمة الطارئة في الدوحة.
إن هذه هي الحقيقة التي ستجعل العرب موضع احترام في العالم، وستنهي غطرسة إسرائيل، فثمة ولادة ناضجة بإذن الله لشرق عربي جديد.