المعروف عن الثورات أنها تلتهم أبناءها، لكن هؤلاء الذين صنعوا الثورة الجديدة في الشرق الأوسط يبدون من النوع العصي على الابتلاع. وبعد تلك الثورة يجد الإسرائيليون أنفسهم وقد أصبحوا في خطر أكبر، أما بالنسبة للولايات المتحدة فتجد نفسها في وضع مزعج؛ فإما التخلي عن سياستها التقليدية في دعم الأنظمة السلطوية، أو إعادة التموضع إلى جانب قوى المعارضة. معظم المعلقين والمستشارين الأميركيين سوف يفضلون الخيار الثاني على أمل إخضاع تلك القوى في نهاية المطاف. والأرجح أن هذا الخيار سيعرض العلاقات الأميركية الإسرائيلية للخطر، مع ما سيترتب على ذلك من عواقب وخيمة للطرفين. وأخيراً، يمكن للولايات المتحدة أن توقف تدخلاتها في الشرق الأوسط، وتشتري احتياجاتها النفطية من السوق الحرة، حيث تتوافر بسهولة، وتشجع إسرائيل على تغيير سياستها حيال السلام مع العرب. بعد حرب 1948، لم يكن لإسرائيل من مفر سوى النظر لنفسها على أنها دولة محاطة بالأعداء من كل صوب، وكان ردها الأمني متوقعاً. وبعد تحالفها مع الولايات المتحدة بات ذلك الأمن مضمونا. لكنها اختارت بعد ذلك ألا تتوصل لسلام مع الفلسطينيين، وأن تواصل توسعها الاستيطاني بهدف استكمال ضم الأرض التوراتية لإسرائيل التي لن يكون فيها مكان للفلسطينيين! هذه السياسة لم تعد عملية؛ فالشرق الأوسط الذي يتطلع إليه من صنعوا الانتفاضتين الأخيرتين الناجحتين، في تونس ومصر، والذي يُعد أملاً لشعوب العالم العربي، من غير المتوقع أن يتبلور بشكل كامل إلا بعد مرور وقت طويل، سيتعرض خلاله للعديد من العقبات والصعاب. كان ذلك هو الطريق الذي سارت فيه الدول الأوروبية عقب الثورات التي اندلعت فيها بالتزامن عام 1848. فتلك الدول لم تتمكن، إلا قرب نهاية القرن التاسع عشر، من تحقيق الإصلاحات، وتوحيد إيطاليا، وتوحيد المقاطعات الألمانية، وحسم التوترات الداخلية في إمبراطورية الهبسبرج التي سقطت لاحقاً أبّان الحرب العالمية الأولى. والوحدة العربية التي سعت أجيال لتحقيقها عقب سقوط الإمبراطورية العثمانية لم تتحقق بعد، بل ربما لم تعد مرغوبة اليوم. ورغم ذلك، يمكن القول إن العرب أثبتوا أنهم لم يعودوا شعوبا ذليلة تقبل الإساءة من الغير. ومن المهم لإسرائيل أن تدرك ذلك. فعلى مدى ستة عقود لم تجد إسرائيل من وسيلة للبقاء في المنطقة سوى التهديد العسكري والرعاية الأميركية... أما الآن فأمامها فرصة للعيش بسلام. والحق إن إسرائيل بحاجة لشخصية من طراز شارل ديجول لديها من قوة الشخصية ما يمكنها من إنهاء المستوطنات، والانسحاب إلى حدود عام 1967، والاعتراف بحقوق الفلسطينيين الذين حرموا من أراضيهم منذ 1948، واقتراح تسوية سلمية مع جيرانها. في النهاية، هناك الولايات المتحدة التي لا تزال تهيمن على المنطقة وتحتفظ بعلاقات مع الإسرائيليين والعرب، والتي فشلت في تحديد ما إذا كان يجب عليها التقدم للأمام أو التراجع للوراء خلال الأزمة المصرية الأخيرة. والحقيقة أن الإدارة الأميركية أرادت إمساك العصا من منتصفها من دون أن تنجح في ذلك. ومن المتوقع خلال المرحلة المقبلة أن تحاول أميركا كسب الطرفين، فترسل مبعوثين إلى الثوار كي تكسب ودهم، فيما ترسل مبعوثين آخرين لطمأنة القادة العرب الآخرين بأنهم سيكونون في مأمن. أمام الولايات المتحدة سياسة حصيفة واحدة في المنطقة، وهي أن تحاول التدخل في التفاعلات التي يشهدها العالم العربي حاليا، وأن تعمل في نفس الوقت على سحب القوات الأميركية من المنطقة، وأن تصدر أوامرها للقوات القليلة التي ستتبقى بعدم التورط في أي عمل سياسي، وأن تضع مواضيع "حماس" و"حزب الله" والإرهاب والموضوع النووي... في الثلاجة إلى حين، والسماح لمسؤولين حكوميين، وليس المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض، بالتعليق على أي حدث أو تطور يتعلق بقطاعاتهم. على أميركا تجنب التدخل، وترك شعوب المنطقة تفعل ما تريده. فحينها لن يكون لأحد أن يلومها. هذا إلى جانب التعامل بأسلوب لائق، وتقديم يد المساعدة لأي حكومة جديدة، مع تركها تحدد نوعية العلاقة التي تريد إقامتها مع أميركا، وأن تتذكر دائما أن النفط والغاز هما سلعتان تباعان في السوق الحرة للطاقة. وسياسة عدم التدخل هذه لها استثناء واحد، وهو تدخل الولايات المتحدة لدى إسرائيل لنصحها بانتهاز الفرصة الحالية لصنع السلام مع الفلسطينيين، ومع جيرانها من العرب الآخرين. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"