كثيرة هي الاجتهادات بشأن موقع الثورتين المصرية والتونسية بين الثورات الشعبية المعاصرة. ورغم أن مشتركات تجمعهما وثورات العصر الراهنة في العالم، فقد حملت كل منهما مكونات جديدة، وخصوصاً عدم وجود قيادة مركزية. ومما هو جديد أيضاً فيهما الغموض الذي أحاط تخلي بن علي ومبارك عن السلطة. غادر بن على تونس وتوجه إلى جدة بشكل مفاجئ يوم الجمعة 14 يناير الماضي، في حين بقي مبارك في مصر بعد تخليه عن الرئاسة يوم الجمعة 11 فبراير، لكنه انتقل من القاهرة إلى شرم الشيخ. ورغم أن مشهد تنحي (أو تنحية) مبارك عن الحكم بدا أكثر وضوحاً مقارنة بمشهد غياب بن علي أو تغييبه عن المنصب الرئاسي، لا يزال الغموض محيطاً بما حدث في الساعات الأخيرة لكل منهما في قمة السلطة. لذلك تتباين الروايات بشأن أحداث الفترة بين مساء الخميس 13 يناير عندما خاطب بن علي شعبه للمرة الأخيرة في كلمة متلفزة قال لهم فيها إنه فهمهم، وعصر اليوم التالي عندما خرج الوزير الأول محمد الغنوشي على الناس معلناً أن الرئيس فوَّضه في إدارة البلاد بشكل مؤقت، وذلك قبل أن يتبين بعد ساعات أنه لم يكن هناك تفويض وأن المنصب الرئاسي صار فارغاً على نحو يفرض أن يتولاه رئيس البرلمان فؤاد المبَّزع لإجراء انتخابات جديدة. كما تختلف الروايات أيضاً بخصوص ما جرى في الفترة من مساء الخميس 10 فبراير عندما أذيعت كلمة متلفزة أعلن فيها مبارك تفويض سلطاته إلى نائبه عمر سليمان وحتى بعد ظهر اليوم التالي حين وَّجه الأخير بياناً شديد الاقتضاب أفاد أن مبارك قرر التخلي عن منصب رئيس الجمهورية وكلَّف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد. وليس غريباً أن تتباين الروايات، وبطبيعة الحال الاجتهادات، حول الساعات الحاسمة التي سبقت تحول رئيسين عربيين إلى حاكمين سابقين بسبب ندرة المعلومات الدقيقة بشأنها. ففي تونس، ينطوي السؤال المركزي حول ما حدث في الساعات التي فصلت بين خطاب بن علي الأخير ومغادرته البلاد على أسئلة فرعية عدة. ومن بينها ما آلت إليه العلاقة بين بن علي وأركان نظامه، لاسيما وقد تحدث في خطابه الأخير عن خداع تعرض له، وهل رأى هو أن يغادر للمحافظة على هذا النظام، أم فُرض عليه ذلك، أم خُدع مرة أخرى وأخيرة؟ الملاحظ أن بن علي اختفى من البلاد وأُعلن غيابه قبل أن تصل اندفاعة الثورة إلى المدى الذي يفرض عليه ذلك. فقد بلغ أكبر حشد، وهو الذي كان أمام وزارة الداخلية، بين 6 و 7 آلاف صباح يوم مغادرته البلاد. فهل يوجد أساس، بالتالي، للرواية القائلة إن رئيس الحرس الرئاسي هو الذي أقنعه بالرحيل طمعاً في منصب؟ وما علاقة ذلك بادعاء الوزير الأول أنه حصل على تفويض منه، وإعلان نفسه قائماً بأعمال الرئيس؟ وما تفسير ذلك خصوصاً أنه أعلن ذلك وبجواره رئيس مجلس النواب الذي لم يلبث أن اعترف ضمناً بعد ساعات بعدم وجود تفويض، وبأن موقع الرئاسة بالتالي صار شاغراً، وأنه سيتولاه بصفة مؤقتة إلى حين إجراء انتخابات؟ ويكتسب السؤال عن كيفية مغادرة بن علي البلاد أهمية خاصة لكون الإجابة عليه تحدد دور كل من الشعب والجيش والحرس الرئاسي في إنهاء حكمه. وهذا هو نفسه مصدر الأهمية الكبرى للسؤال المتعلق بكيفية تنحي مبارك تماماً بعد أن قاوم بشدة ولمدة 17 يوماً، ومعه عائلته وأكثر المستفيدين من عهده، خياراً آخر هو تفويض السلطة إلى نائبه. فهل اقتنع فعلاً بأن القصة انتهت عندما تواصلت المظاهرات بعد خطاب التفويض واقترب بعضها للمرة الأولى من قصر الرئاسة، أم فرضت عليه قيادة الجيش التي أدارت الأزمة بحكمة أن يغادر السلطة قبل أن يسقط ومعه النظام كله؟ السؤال لا يزال مفتوحاً لوجود شواهد يدل بعضها على أن مبارك قاوم التنحي في الساعات الأخيرة له في القصر الرئاسي، فيما يفيد بعضها الآخر أنه وافق على ذلك بعد أن رفض خيار تفويض السلطة لأيام طويلة أعقبت محاولة بعض أركان نظامه للإجهاز على الثورة عبر الهجوم على بؤرتها المركزية في ميدان التحرير فيما صار يُعرف بـ"موقعة الدواب". فكان المشهد حول القصر الرئاسي ليلة التنحي بعيد خطاب تفويض السلطة يدل على حال تأهب لمواجهة المتظاهرين بالقوة اعتماداً على قوات الحرس الجمهوري الموالية لمبارك والتي أقامت متاريس وتحصينات، وشوهد عدد لا بأس به من القنَّاصة فوق أسطح بنايات في منطقة القصر، فضلاً عن مئات الأشخاص الذين يهتفون باسمه وقد بدت عليهم سمات مشابهة لأولئك الذين اقتحموا "ميدان التحرير" قبل ثمانية أيام. غير أن هذه الشواهد لا تكفى لإثبات أن مبارك لم يقرر التخلي عن منصب الرئاسة بإرادته، وأن هذا القرار فُرض عليه. كما أن ما ورد في بعض الروايات باعتباره مؤشراً على أن التنحي كان قراره، وهو أنه غادر إلى شرم الشيخ في حوالي الثانية عشرة ظهر الجمعة 11 فبراير، لا يحسم الجدل، خصوصاً في وجود رواية أخرى منسوبة إلى بعض العاملين في ديوان الرئاسة تقول إن نجله جمال وبعض أنصاره بذلوا جهداً هائلا لتأجيل بث بيان سليمان المقتضب بشأن تنحيه. وتمضي رواية أخرى إلى مدى أبعد فتفيد بأن مبارك وضُع أمام الأمر الواقع حيث لم تُطلب موافقته على بيان التنحي بل أُبلغ به في شرم الشيخ بعد بثه من أجل حسم الموقف بعد أن تراجع عن اتفاق سابق مع قيادة الجيش على مغادرة السلطة. فوفقاً لهذه الرواية، وروايات أخرى، كان مقرراً أن يعلن مبارك تنحيه في البيان الذي أذيع مساء 10 فبراير، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة واكتفى بالتفويض. ويكتسب السؤال عن تفاصيل الساعات الأخيرة لكل من بن علي ومبارك في السلطة أهميته القصوى لكون الإجابة عليه تحدد نوع التغيير الذي حدث في كل من البلدين، والقوى التي ساهمت فيه، وهل كانت الثورة البيضاء في الحالتين هي التي أنهت حكم رئيسين عربيين أم أن انقلاباً أبيض وقع في تلك الظروف. وإلى أن تتوفر معلومات دقيقة وتتضح الصورة في وقت لن يكون بعيداً على الأرجح، ربما يجوز استنتاج أن مزيجا من الثورة الشعبية وانقلاب القصر هو الذي أنهى حكم رئيسين أمضى أولهما 24 عاماً والثاني 30 عاماً في السلطة.