بالذات بعد تشكيل حكومة الطوارئ الفلسطينية يوم 7/10/2003 ، لا يمكن النظر إلى عملية حيفا يوم 4/10/2003 باعتبارها مجرد عملية عسكرية! وبغض النظر عن التسمية (فدائية/جهادية/انتحارية) فإن تلك العملية هي تعبير عن موقف أيديولوجي حينا وموقف سياسي غالبا· فمنفذوها ومن هم وراءهم ليسوا مجرد مغامرين/عدميين/عبثيين وفقا لما يذهب إليه كثيرون! إنهم قوى سياسية فلسطينية (وطبعا عربية ومسلمة) حقيقية موجودة بقوة في أوساط الشارع الفلسطيني وخارجه· لهم فلسطينيا أيديولوجيتهم الدينية (الإسلامية في حالة حركتي حماس و الجهاد ) وأيديولوجيتهم الوطنية أو القومية أو اليسارية (في حالة كتائب شهداء الأقصى الفتحاوية، والجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية) على رغم التباينات السياسية القائمة حول عدة أمور تتصل بحدود وبأهداف هذه العمليات· وما لم تحدث معجزة (في فلسطين التي اعتادت -تاريخيا وراهنا- على المعجزات) فإن القوى آنفة الذكر ستبقى في معسكر عريض واحد، يقابله معسكر عريض آخر يشتمل على كل القوى المناهضة لاستمرار الانتفاضة بأي شكل من الأشكال أو لاستمرارها بشكلها العسكري! وإذا كانت المنطلقات الأيديولوجية والبرامج السياسية للمعسكرين متباينة، بل متناقضة، فإنه لمن المؤكد أيضا وجود خلافات على صعيد النهج في حركة فتح الحزب الحاكم حيث يوجد فيها نهجان مختلفان· على رغم أن آخر فصيل فلسطيني وافق على الهدنة هو حركة فتح (كتائب الأقصى)· وإذا كانت الاستخلاصات أعلاه تشكل حقيقة كبرى أولى، فماذا عن الحقائق الأخرى؟
تتجلى الحقيقة الكبرى الثانية في خلاصة أن الفلسطينيين، على أرض فلسطين، يشعرون باليأس مما يمكن تسميته النظام العربي والنظام الإسلامي! بل إن ثمة ألماً من ثلثي الشعب الفلسطيني في المهجر والشتات والمنفى لأن دور هذين الثلثين مغيب وأصبح جزءاً عاجزا أو مستقيلا كما هو حال الأمة العربية والإسلامية· وتتصل بهذا خلاصة إضافية قوامها أن ثلث الشعب الفلسطيني يقف على خط النار، صامداً على أرض الرباط، يخوض معركته وحيدا، فلا يجوز توجيه التهم إليهم إذا هم فاوضوا أو إذا هم عقدوا هدنة أو إذا هم قادوا مقاومة بأي شكل كان· فهم لهم الحق في كل ذلك طالما أنهم آخر المدافعين عن شرف هذه الأمة· فظهرهم الآن إلى الحائط! وصمودهم الأسطوري ليس لأنهم يختلفون عن البشر، كما يحلو لبعض الشوفينيين الفلسطينيين أن يقولوا، لكنهم وضعوا في ظروف صقلت عندهم روحا نضالية معينة ووعيا معينا وحكمة معينة! فلو وجدوا سلاما لوافقوا عليه، ليس من باب الاستسلام، وإنما لتعطشهم للحياة الهادئة/الآمنة/ الكريمة كأي شعب آخر! وكون ظهرهم إلى الحائط يجعلهم يختارون طريق التفاوض والمقاومة الأنسب· لكن ماذا عن واقع أنهم -ونحن أيضا معهم- لا يعيشون في جزيرة معزولة، وبالتالي ماذا عن التأثيرات الخارجية؟
إن التأثيرات الخارجية هي حقيقة كبرى ثالثة مهمة في نسيج الشأن الفلسطيني· فهناك، بلا شك، اختراقات أيديولوجية، واختراقات مالية، واختراقات تنظيمية، واختراقات سياسية، وهي في أغلب الأحيان باختيار القوى والحركات والفصائل الفلسطينية وجرى التعود عليها منذ نشأت منظمة التحرير! والتدخل العربي في المسألة الفلسطينية أمر لا جدال فيه، لكن، كيف يمكن أن يشكل هذا عامل إحياء، وكيف يمكن أن يشكل عامل تدمير؟ فبالنظر إلى موضوع الهدنة، فالقوى الرافضة لها ظلت ترفضها إلى آخر يوم وفجأة قبلت بها، لماذا؟ لأنه مورس عليها ضغط من الأطراف الخارجية: تجفيف مالي، ثم تجفيف إعلامي، ثم تجفيف سياسي، ثم تجفيف بالمعنى الفسيولوجي (اغتيال قيادات)! ولقد قبلت كل هذه الأطراف الهدنة لاعتبارات مختلفة أبرزها أن الولايات المتحدة أرعبت النظام العربي والإسلامي· لكن هذه الأطراف عادت فقررت، تحت الضغط الاستفزازي الإسرائيلي، تجديد الاشتباك· إذن، الضغط الخارجي قائم لكنه مرهون بوضع الولايات المتحدة· وكلما ضعفت هيمنة الولايات المتحدة كلما ازداد إصرار هذا الشعب المصمم، أولا بإرادته الذاتية، ثم بتناغمه مع اختراقاته الخارجية، على الاستمرار في المقاومة· وإن بقي جبروت الولايات المتحدة ، فإن جميع هذه الدول التي فرضت الهدنة باختراقاتها الفلسطينية ستفرض الوحدة الوطنية وستفرض القيادة الوطنية لأن الإرادة الخارجية الإقليمية والدولية تريد خلاصا· فهذا آخر احتلال من القرن الماضي، وهذه بؤرة متوترة، والمؤسسة الدولية المسيطرة تريد الاستقرار· لذلك، فإن هذه القوى ستتابع الضغط باتجاه إيجاد حل، لكن سيكتشف الجميع قريبا أنه لا يوحد حل إلا بإشراك حماس و الجهاد لأنهما أصبحتا جزءاً من النسيج السياسي والاجتماعي الفلسطيني· وكذلك الحال مع الرئيس ياسر عرفات الذي كان مرفوضا تماما حتى وقت قريب، ثم بدأت عملية إعادة الاعتبار إليه على أكثر من صعيد وفي أكثر من بلد لأنهم اكتشفوا أنه من المستحيل تجاوزه، ليس لشخصه، وإنما لأنهم اكتشفوا أنه، لشدة العداء الإسرائيلي والأميركي له، قفزت شعبيته من (28%)لى ما يزيد على (78%) فأصبح -حقا- رقما صعبا في الساحة، و