الشاشة الفضية: التأثيرات النفسية والعضوية
منذ بداية العصر الذهبي للتلفزيون كوسيلة ترفيه رئيسية تحتل موقعاً مركزيّاً في حياة الأفراد والأسر أدرك العلماء والمختصون التبعات الاجتماعية الناتجة عن قضاء غالبية أفراد المجتمعات البشرية الحديثة لبضعة ساعات يوميّاً في مشاهدة هذا الوسيط الإعلامي الترفيهي المهم. وتظهر الإحصائيات انتشاراً واسعاً لجهاز التلفزيون في مختلف دول العالم، الغني منها والفقير. فمثلًا في الولايات المتحدة تمتلك 99 في المئة من العائلات الأميركية جهاز تلفزيون واحداً على الأقل، بينما تمتلك 66 في المئة منها ثلاثة أجهزة أو أكثر. ويقضي الأميركي العادي أكثر من أربع ساعات يوميّاً أمام التلفزيون، وهو ما يعني 28 ساعة في الأسبوع أو شهرين كاملين من كل عام. ولو وضعنا في الاعتبار أن متوسط عمر الشخص الأميركي يبلغ خمسة وستين عاماً، فسندرك أنه يقضي تسعة أعوام كاملة من عمره جالساً على كرسي يطالع التلفزيون.
وخلال العقود والسنوات القليلة الماضية، اتسع نطاق إدراك تبعات مشاهدة التلفزيون، ليشمل بخلاف التبعات الاجتماعية، كلاً من التأثيرات النفسية، والتغيرات العضوية والوظيفية الناتجة عن مشاهدة التلفزيون. فعلى الصعيد النفسي مثلاً، تشير بعض الدراسات إلى أنه أثناء مشاهدة التلفزيون، يزيد نشاط جزء خاص من المخ يعرف بالعقدة القاعدية (Basal Ganglia)، ويزداد أيضاً إفراز مادة الدوبامين (Dopamine)، إحدى الموصلات العصبية الكيميائية الخاصة. ويعتقد بعض العلماء أن إفراز الدوبامين بكميات كبيرة خلال هذه الفترة، يقلل لاحقاً المتوفر منها للوظائف العصبية الأخرى. وفي الوقت نفسه، أظهرت الدراسات أنه خلال وقت المشاهدة، يتضاعف نشاط الجزء الأيمن من المخ مقارنة بالجزء الأيسر، مما يخلق حالة من التنويم المغناطيسي المؤقتة.
وبخلاف هذه التأثيرات المؤقتة، خلصت دراسة مشهورة أجراها أطباء مستشفى الأطفال بمدينة "سياتل" بالولايات المتحدة، إلى أن مشاهدة التلفزيون من قبل الأطفال الرضع، تحدث تغييرات في التركيب الوظيفي وربما أيضاً التشريحي لأدمغتهم، بما يجعلها عرضة لاضطراب فقدان التركيز (Attention Deficit Disorder). ويفسر القائمون على الدراسة هذا التأثير السلبي على الجهاز العصبي للأطفال، بأنه ناتج عن الإيقاع السريع للصور والأصوات التي تتلاحق على الشاشة. مما يعيد تنظيم التوصيلات الداخلية للمخ، حتى يتمكن من التعامل مع التغيرات السريعة المتلاحقة. ولكن تكمن المشكلة في أن البقية الباقية من نشاطات الطفل اليومية، وخصوصاً المتعلقة بالدراسة والقراءة والجلوس في الصف لساعات طويلة، لا تحمل القدر نفسه من الإثارة، أو نفس الإيقاع في التغيير، وهذا مما يفقد الطفل اهتمامه ومن ثم تركيزه سريعاً. ولذا ينصح الباحثون بعدم تعريض الأطفال الأقل من عامين للتلفزيون بالمرة، مع قصر عدد ساعات المشاهدة على ساعتين فقط يوميّاً للأطفال الأكبر سناً.
ويمتد تأثير التلفزيون ليتخطى القيم الاجتماعية، والتأثيرات النفسية العصبية، ليشمل أيضاً تغيرات عضوية وظيفية، تتجسد في ارتباط عدد ساعات المشاهدة، باحتمالات الإصابة بزيادة الوزن والسمنة المفرطة. وهذا التأثير، إما أن يكون ناتجاً عن كون ساعات المشاهدة هذه ترتبط بانعدام النشاط البدني الحركي، أو حسب رأي البعض نتيجة لانخفاض مستوى العمليات الأيضية الحيوية. وهذا السبب الأخير، يعني أن النشاط الأيضي الحيوي خلال ساعات مشاهدة التلفزيون، يصل إلى معدلات أقل من معدلاته الطبيعية خلال ساعات الراحة، وهي الحقيقة التي ربما تنتج عن التأثيرات العصبية سابقة الذكر، وخصوصاً حالة التنويم المغناطيسي المؤقتة. وغني عن الذكر هنا، أن زيادة الوزن والسمنة، سواء نتيجة قضاء ساعات في مشاهدة التلفزيون أو لأسباب أخرى، تعتبر عامل خطر مهمّاً خلف الإصابة بطائفة متنوعة من الأمراض.
وهذه العلاقة أظهرتها بداية هذا الأسبوع دراسة نشرت في الدورية الطبية الخاصة بالجمعية الطبية الأميركية (The Journal of the American Medical Association)، كان قد أجراها علماء كلية هارفارد للعلوم الصحية بالولايات المتحدة، وشملت تحليل نتائج ثماني دراسات كبرى أجريت على أكثر من 175 ألف شخص، وخلصت إلى أن لكل ساعتين يقضيهما الشخص في مشاهدة التلفزيون يوميّاً، تزداد احتمالات إصابته بالسكري من النوع الثاني بنسبة 20 في المئة، وبأمراض القلب والشرايين بنسبة 15 في المئة، ولذا يمكن بإغلاق التلفزيون والقيام بنشاطات بدنية أخرى تجنب إصابة شخصين من كل ألف، بالسكري وبأمراض القلب، وما ينتج عنهما من وفيات مبكرة.
وينوه الباحثون إلى أن التأثيرات الصحية السلبية هذه، ليست بسبب مشاهدة التلفزيون في حد ذاته، وإنما نتيجة لكون الأشخاص الذين يقضون ساعات طويلة أمام التلفزيون، غالباً ما يغيب من جدولهم اليومي تخصيص وقت للنشاطات البدنية والحركية، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى زيادة أوزانهم، ومن ثم إصابتهم بالسكري وأمراض القلب والشرايين. ومثل هذا السيناريو يتكرر أيضاً مع قضاء ساعات أمام شاشة الكمبيوتر، وخصوصاً بين من يقضون جزءاً من وقت فراغهم مع ألعاب الفيديو أو "التشات" وتصفح الإنترنت، وهو السلوك الذي يؤدي في النهاية إلى عواقب صحية وخيمة، إذا ما ترافق مع وظيفة مكتبية تعتمد على الجلوس على مكتب أمام شاشة كمبيوتر أيضاً، ثم قضاء بقية وقت الترفية مع الشاشة الفضية.