مصر الآن مختلفة عما كانت عليه في العقود الماضية. في هذا الاختلاف كثير من الإيجابيات. وفيه أيضا غير قليل من السلبيات أخطرها الانقسام المتزايد على خلفيات عدة، دينية طائفية، واجتماعية طبقية، وسياسية فكرية. ورغم أن التوتر الديني الطائفي الذي ينتج عن تراكمات طويلة، يثير في العادة أكبر مقدار من القلق حين يؤدي إلى مواجهات أو صدامات بين مسلمين ومسيحيين في بعض المناطق، فالانقسام السياسي والفكري بشأن طبيعة الدولة في عهدها الجديد وموقع الدين فيها، يبدو الآن هو الأكثر خطراً. وهذا الانقسام ليس غريباً نتيجة عدم حسم قضية العلاقة بين الدولة والدين على مدى أكثر من قرنين من الزمن، منذ أن تركها محمد علي معلقة في أوائل القرن التاسع عشر. لكنه يستمد خطره المتزايد الآن من تفاعلات بالغة الحدة تهدد بتحوله إلى استقطاب بين "فسطاطين". ويظهر خطر هذا الاستقطاب في المعارك المتزايدة بين الاتجاهات الأشد تطرفاً في أوساط الحركات والقوى الإسلامية، والمجموعات الأكثر تشدداً في أوساط التيارات العلمانية التي يفضل بعضها أن يسمى نفسه "مدنياً". ويزداد خطر هذا الاستقطاب عندما يتداخل جزئياً مع التوتر الديني الطائفي. ويحدث ذلك حين يحاول بعض من يثيرون الفزع من إمكان وصول أحزاب وحركات إسلامية إلى السلطة، التلويح بورقة الأقباط أو محاولة استخدامها لدعم موقفهم. وحتى "ميدان التحرير" الذي شهد انصهاراً مدهشاً للمصريين في الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير الماضي، فقد طابعه الجامع هذا وصار المشهد فيه تجسيداً للانقسام بين الإسلاميين وغيرهم كما حدث في تظاهرات يوم الجمعة الماضي التي رُفع فيها شعار "الثورة أولاً". وتتوقف إمكانات مواجهة هذا الخطر على مدى قدرة المعتدلين في الحركات الإسلامية والأوساط المدنية والعلمانية على بناء توافق عام على مقومات "الدولة الجديدة"، وموقع الدين فيها، على نحو يعزل المتطرفين والمتشددين على الجانبين، ويحبط محاولاتهم تقسيم البلاد إلى "فسطاطين" وبالتالي إشعال نار قد تحرق الجميع. وهناك جهود جادة تُبذل في هذا الاتجاه على المستوى السياسي، في مقدمتها السعي إلى بناء ائتلاف واسع يضم أحزاباً إسلامية وأخرى مدنية وعلمانية تتوافق على المبادئ الأساسية للدستور الجديد الذي ستضع مشروعه جمعية تأسيسية يختارها البرلمان القادم بعد انتخابه. ومن شأن هذا التوافق أن يهدئ روع الخائفين من أن يفوز الإسلاميون بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وأن ينفردوا بالتالي بوضع الدستور الجديد. كما أنه يجعل الإسلاميين مطمئنين بدورهم، في حال حدوث مفاجأة في الانتخابات المقبلة تجعلهم أقلية في البرلمان الذي سيكون له الدور الرئيسي في وضع الدستور، إلى أن الشريعة الإسلامية لن تُستبعد من مقومات الدولة المدنية المصرية الجديدة. وهذا ما حققت مجموعة كبيرة من الأحزاب تقدماً في اتجاهه خلال الأسابيع القليلة الماضية عبر تأسيس "التحالف الديمقراطي من أجل مصر"، والاتفاق على وثيقة توافقية تم إعلانها يوم الخميس الماضي. وتتضمن هذه الوثيقة رؤية معتدلة ومتوازنة للعلاقة بين الدولة والدين. فقد أعادت تأكيد ما تضمنه الدستور السابق من أن الإسلام هو دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، مع إضافة حق غير المسلمين في الاحتكام إلى شرائعهم. كما حددت، في الوقت نفسه، الأسس التي تضمن مدنية الدولة وفي مقدمتها أن يكون البرلمان دون غيره هو الُمخاطَب بالنص الخاص بمبادئ الشريعة الإسلامية ، وأن يكون القضاء الطبيعي وحده هو الحكم في حال حدوث أي خلاف في هذا المجال. وتضع الوثيقة التوافقية، في الوقت نفسه، المبادئ التي تجعل الشعب هو المصدر الوحيد للسلطة والسيادة. وما يقترن بذلك من حقوق وحريات عامة. ويبدو التوفيق بين الإسلاميين وغيرهم واضحاً في النص على احترام حقوق الإنسان كما وردت في المواثيق والعلاقات الدولية بشرط عدم تعارضها مع مبادئ الشريعة الإسلامية والحفاظ على الهوية العربية لمصر. وهذه خطوة مهمة باتجاه وضع حد للانقسام الذي كان قد أخذ في التوسع خلال الشهور الماضية عندما بدأ الصراع والتطاحن حول النظام السياسي الجديد في مصر. غير أن تدعيم هذه الخطوة وضمان عدم حدوث تراجع عنها، يتطلب حواراً فكرياً كذلك وليس سياسياً فقط. فالقسم الأعظم من التراشق الذي يحدث بين إسلاميين وعلمانيين، خصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة "الإنترنت"، يركز على الأفكار والمبادئ أو بالأحرى التنابذ بصور نمطية يرى بعض الإسلاميين غيرهم من خلالها، والعكس كذلك. وتبدو هذه الصور في الأغلب الأعم إما بعيدة عن الحقيقة بشكل كامل أو مبالغة بدرجات مختلفة. ولا سبيل لمعالجة هذا الميل إلى "الشيطنة" المتبادلة إلا عبر حوار جاد لكي يعرف كل طرف الآخر كما هو، بحيث يتبين أن الأغلبية الساحقة من غير الإسلاميين متدينون يؤمنون بالله، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، وأن معظم الإسلاميين لا يريدون دولة دينية بل دولة مدنية مرجعيتها إسلامية. وإذا كان المبتغى هو أن ينتج هذا الحوار الجاد تعارفاً على الصعيد الفكري يدعم التوافق على المستوى السياسي، فربما يثمر أيضاً على مدى أطول نسبياً تقارباً بين بعض الإسلاميين والليبراليين على قواسم مشتركة قد تكون أساساً لتيار جديد يجمعهما وقد يُطلق عليه مثلا "ليبرالية إسلامية". وليس هذا مستحيلا حتى إذا بدا أنه صعب الآن. فلم تكن هناك أبدا ليبرالية واحدة نهائية. كما أخذت الليبرالية طابعاً مميزاً في كل مجتمع من خلال امتزاجها بثقافته وتراثه. وفي المقابل، لم يكن هناك اتجاه أو تيار واحد في الإسلام السياسي المعاصر، ولا في الفقه الإسلامي على مر العصور. فإسلامية (لا أقصد الإسلام) أردوغان مثلا ليست إسلامية بن لادن. وإسلامية محمد عبده ليست إسلامية حسن البنا. وإذا كانت المبادئ الأساسية في الليبرالية هي الحرية والفردية والعقلانية، فهذه كلها مبادئ إسلامية أيضاً. صحيح أن تفاصيلها وتطبيقاتها تختلف هنا وهناك. لكن هذا الاختلاف قائم أيضاً في داخل الليبراليين أنفسهم، كما في أوساط الإسلاميين كذلك. وإذا كانت الحرية هي القيمة العليا في الليبرالية، فقد سبقها الإسلام إلى إعلان شأن هذه القيمة عندما حرَّر الإنسان من الخضوع إلا لخالقه. وبغض النظر عن مدى واقعية مثل هذا الطموح أو مثاليته، فالمهم هو أن يكون هناك حوار حتى إذا لم يؤد إلى أكثر من توسيع مساحة التوافق العام وتجنب الانقسام بين "فسطاطين".