حسب نشرة "أفق" التي تصدر عن "مؤسسة الفكر العربي"، فإن العالم العربي يحتضن اليوم حوالي 395 جامعة، وكان الرقم قبل عشرين عاماً 92 جامعة فقط! ونحن دوماً نقول: "العبرة بالكيف لا الكم"! وقد تزامن ظهور طفرة الجامعات الرسمية في السنوات العشر الأخيرة مع ازدياد نسبة الجامعات الخاصة أيضاً، حيث دخل رأس المال الخاص في التعليم! وقد اكتشفت بعض الدول الخليجية أن هنالك بعض مراكز الطباعة والنسخ والتغليف قد فتحت جامعات في أقبيتها "تحت الأرض" غير مُرخص لها، وتمارس التعليم بمستويات دنيا من أجل الربح ومنح شهادات من الجامعات الأم "الضعيفة" أصلاً! ويتخوف كثيرون من أن التعليم الخاص أصبح مصدر تهديد للتعليم الحكومي، الذي هو الآخر يعاني من تبعات سلبية تراكمت، نظراً لعدم وجود الشفافية والتقييم المستمر لأدائه. ومن أهم تلك السلبيات: وقوع ذاك التعليم في حبائل بيوتات الخبرة الأجنبية التي استُقدمت لبعض البلاد العربية من أجل تطويرها العام، ومن ضمن ذلك التعليم. فصار أن جلبت -أو اقترحت- تلك البيوتات التي نالت ثقة كبيرة، حتمياتٍ خالفت كل قيم التعليم المتعارف عليها، وجاءت بتجارب أجنبية قد لا تصلح للطالب العربي، دون أن تحل مشكلات التعليم المتعددة مثل: كثافة الطلاب في الجامعة، وضعف الموارد والمختبرات والتقنيات، وقلة الميزانيات، وغيرها من المشكلات. بل لقد ركز بعض تلك البيوتات على "تثوير" التعليم والتغني باللغة الإنجليزية والرياضيات كمدخل أساسي لفهم متطلبات العصر. وإذ لا نختلف على ذلك، إلا أن للطالب جوانب أخرى أيضاً لابد من تلبيتها، مثل المواد القيمية والمجتمعية والتاريخ العربي والمواد الإثرائية التي تحددها المواهب والمهارات. ونحن في العالم العربي نحتاج إلى الشاعر والمسرحي والإعلامي والموسيقي والقاضي، فلئن أحرجنا الطلبة المنتمين لمثل هذه الفروع بضرورة تعلم اللغة الإنجليزية، فإننا سنفقدهم، لأن تعليمهم الأساسي لم يكن يركز على الإنجليزية، ناهيك عن أننا قد نفقد المدرسين الجامعيين الذين درّسوا هذه المواد باللغة العربية لسنوات طويلة، وأصبحت لديهم خبرة كبيرة في هذا المجال! وهذا في رأينا "تفريغ" للكوادر الأكاديمية ووسيلة لإحلال أجانب محلهم قد لا يدركون الواقع العربي. ولعل المشكلة الكبرى التي تواجه التعليم هذه الأيام هي مدى قدرة الجامعة على استيعاب احتياجات السوق، وهل تفي الجامعات في العالم العربي بالمستلزمات الأساسية لتوفير موظف قادر على التعامل مع معطيات العصر، حتى وإن أتقن اللغة الإنجليزية! إننا نعتقد أن هذا محور مهم ينبغي الالتفات إليه لا إهماله وتركه للزمن. لقد حدثت موجات تسرّب عديدة من الجامعات منذ أن حضرت تلك البيوتات إلى بعض دول الخليج، بل أصبحت حتى العاملات في أرشيف بعض الجامعات وفي التسجيل من غير المواطنات، كما أخبرتني إحدى الزميلات في جامعة خليجية! وهذا يحرم الخريجات من فرص الحصول على وظائف في الجامعة التي تخرّجن منها، في الوقت الذي قد يعيق عامل اللغة من الاتصال السليم بين الطلبة والجامعات. كما أشارت تلك النشرة المذكورة إلى حقيقة أخرى مهمة هي أن الجامعات الخاصة لا يمكن أن تضمن التوفيق بين السوق وبين إنتاج المعرفة، وكذلك تحقيق فرص التعليم للجميع! ذلك أن القائمين على بعض تلك الجامعات هم من رجال الأعمال أو من "قوى سياسية واقتصادية واجتماعية غير تربوية"، مشيرة إلى أن بعض رخص تلك الجامعات مُنح لشركات تجارية شعارها "استثمار أقل وأرباح أكثر"! وهذا أمر يدعونا إلى التفكير مجدداً في أمر التعليم. وما زلنا نعتقد بضرورة تقييم تجربة المدارس المستقلة، وهل حققت أهدافها وما هو المطلوب منها في المستقبل. وإذا ما أردنا قياس مدى استفادة المواطنين من التعليم الخاص، فسنجد أن نسبتهم في هذا التعليم لا تزيد عن 20 في المئة من مجموع منتسبي هذه الجامعات المنتشرة في منطقة الخليج، بل إن أغلب الطلاب هم من أبناء الطبقة القادرة على دفع الرسوم العالية، التي قد تصل إلى أكثر من 25 ألف دولار للموسم الواحد، أو هم من أبناء الموظفين "الكبار" الذين تضمن عقودهم "السخية" تعليم أبنائهم في جامعات خاصة. وقد أسرّ لي أحد المفكرين الخليجيين بأن مجموع المنتسبين لإحدى الهيئات التعليمية في المنطقة وصل إلى 1200 طالب وطالبة، عدد المواطنين بينهم لا يتجاوز 200 طالب وطالبة! وهذا يطرح عدة تحديات وتساؤلات حول مستقبل المواطنين الذين لا يستطيعون دفع تلك الرسوم لتعليم أولادهم، وبالتالي يأتي عدم استطاعتهم المنافسة في سوق العمل وعدم حصولهم على وظائف عليا ذات مردود مادي جيد في بلدانهم، وهذا لا يتماشى مع مفهوم "دولة الرعاية"، أو نصوص الدساتير حول مجانية التعليم! وإذا ما جنحت أيضاً بعض الجامعات الرسمية -التي من المفترض أن تحتوي السواد الأعظم من الطلاب والطالبات كونها مجانية- إلى وضع تعجيزات في وجه الطلاب والطالبات، فإن مستقبل التعليم الجامعي ومستقبل الأبناء سيكون محفوفاً بعدم اليقين، لأن عجلة الزمن سريعة، وتطور الوظائف وشروطها يسير بسرعة أكبر، ولن يجد من لا يمتلك تعليماً جيداً نفسه إلا خارج دائرة المنافسة على حياة كريمة وراتب يقيه غائلة السؤال! هذا ناهيك عن احتمال حدوث بطالة كبيرة بين المواطنين مع ارتفاع تكاليف الحياة، وتحول أنماط السلوك الاستهلاكي إلى المغالاة والتقليد عند البعض. وفي آخر سطور النشرة المذكورة يؤتى بحديث لرئيس الجامعة الأميركية في بيروت "جون واتربوري" حيث قال: "هناك احترام رفيع في الشرق الأوسط لمؤسسات التعليم العالي الأميركية التي انتشر عدد منها بنجاح في المنطقة، وهذه المؤسسات الأميركية أنتجت أجيالاً شرق أوسطيين يستطيع الأميركيون معهم تحديد المسائل بلغة وعبارات يفهمونها ويحترمونها سواء بسواء". وقد لا نكون في حاجة إلى شرح مغزى هذه العبارة، ولكننا نود التذكير فقط بأن المشاريع الأميركية "الإصلاحية" في المنطقة العربية -ولعل العراق أوضح الأمثلة- لم تنجح، كما أن الوعود الأميركية بتحويل الشرق الأوسط إلى "فردوس ديمقراطي" لم تتحقق أيضاً، بل لقد سارت الأحداث بوتيرة سريعة، وسقط زعماء عرب موالون للولايات المتحدة، ظلوا في الحكم لأكثر من ثلاثين عاماً؛ وسط دهشة العالم، حيث ترددت الولايات المتحدة في بادئ الأمر مع من تقف! واكتشف أولئك الزعماء السابقون أن الولايات المتحدة قد "غسلت" أيديها منهم بعد ثورة الشعوب، فقامت -على استحياء- بتأييد الثورات الناجحة، وأمسكت العصا من النصف فيما يتعلق بالثورات التي تدور في دائرة المخاض، أو أخذت تدعو لمنع العنف والتطرف وضرورة الحفاظ على الاستقرار. وقضية التعليم القادمة من الخارج -مهما تفاخرنا بالحلم الأميركي- ليس بالضرورة أن تكون في صالح المنطقة. ونعود، مرة أخرى، لقضية التعليم التي أُشبعَت بحثاً سواء في مجلس التعاون الخليجي أم في مكتب التربية لدول الخليج العربية أو الندوات التي تقيمها الجامعات، حيث نجد أن قرار التعليم أو سياساته لا تعود لأهل التعليم بقدر ما هو بيد الحكومات التي تسيّره حسبما تشاء أو حسبما قد تقترحه بيوتات الخبرة الأجنبية، إذا استعين بها. وهذا إذا ما علمنا بأن التعليم الثانوي مثلاً ظهر فيه العديد من العيوب بعد 100 عام من تطبيقه في مصر، وأن الدول العربية قد أخذت ذلك التعليم من مصر. ولذلك فنحن نحتاج إلى رؤية جديدة لمستقبل التعليم. وهذه الرؤية ينبغي أن تنطلق من داخل العالم العربي لا أن تستورد من الخارج، مع الأخذ بعين الاعتبار تراجع الدخول، ومنافسة الأجانب للمواطنين، والحريات، ومتطلبات الشباب، ومتطلبات التنمية عموماً في البلاد العربية.