عندما تلقيتُ الدعوة من كنيسة المسيح المتحدة في أميركا لإلقاء محاضرة حول مسيحيي الشرق، وأخرى حول العلاقات الإسلامية- المسيحية أمام سينودس (المؤتمر العام) الكنيسة، رحبت بالدعوة دون تردد، وذلك لأسباب عديدة منها؛ أولاً أن موجة العداء ضد الإسلام والمسلمين التي تجتاح الولايات المتحدة تشهد تصاعداً خطيراً مع اقتراب موعد ذكرى جريمة 11 سبتمبر 2001، حتى أن أحد المرشحين للرئاسة عن الحزب الجمهوري "هيرمان كين" أعلن أنه سيسمح بمنع بناء المساجد، وأنه لن يوظف أي مسلم في إدارته. ومنها ثانيّاً، أن كنيسة المسيح المتحدة، وهي من أكبر الكنائس الإنجيلية الأميركية ومنتشرة في كندا وفي دول عديدة أخرى في آسيا وأميركا اللاتينية، سبق لها أن اتخذت موقفاً مشرفاً من القضية الفلسطينية عندما قررت قبل عامين وقف الاستثمارات في إسرائيل في محاولة منها للضغط على الحكومة الإسرائيلية لكي تستجيب للحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني. ومنها ثالثاً، أن مكان انعقاد السينودس هو في ولاية فلوريدا حيث دعا القس "تيري جونز" إلى إحراق المصحف الشريف. وكنت المسلم الوحيد في هذا المؤتمر العام الذي حضره 3172 مندوباً من كهنة الكنيسة والمؤمنين بها. وكانت تداعيات إحراق المصحف الشريف لا تزال ماثلة في الأذهان حيث سقط كردّ فعل على ذلك عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى في العديد من الدول الإسلامية. وقد وضعت أمام المؤتمر لائحة طويلة بسلسلة الاعتداءات التي تعرضت لها المساجد في العديد من المدن الأميركية في عام 2010 التي تعكس مشاعر العداء للإسلام. ووسط هذا الجو المكفهر بكراهية الإسلام والعداء للمسلمين، عقدت كنيسة المسيح المتحدة مؤتمرها العام في مدينة "تامبا" بولاية فلوريدا، التي شهدت العديد من هذه المظاهر المناهضة للإسلام، والتي كان أخطرها إحراق المصحف الشريف. وكان على المؤتمر أن يصدر توصية تحدد موقفه من هذه الظاهرة تقوم على خلفية تعاليم الكنيسة، ومفهومها للإسلام. ومن هنا كانت أهمية الحديث عن موقع المسيحية في الإسلام وعن أوضاع المسيحيين العرب والشرقيين. وفي الأساس كانت كنيسة المسيح المتحدة ضد هذه الظاهرة المتنامية. وسبق لها أن أكدت على ذلك في مناسبات عديدة، إلا أن توسع هذه الظاهرة في الولايات المتحدة وكندا، كان حافزاً لإعادة طرحها أمام المؤتمر العام حتى يكون القرار سواء بالتصدي لمشاعر الكراهية والعداء للإسلام أو بالاستسلام له صادراً عن قاعدة هرم الكنيسة وليس عن القمة. لقد توفرت لي الفرصة لأتحدث ثلاث مرات أمام هذا المؤتمر الكبير. أولاً في ندوة مشتركة مع الدكتورة "ديانا إيك" أستاذة العلوم السياسية في جامعة هارفرد. التي تحدثت عن مظاهر العداء للمسلمين في الولايات المتحدة. وقالت إن المعادين للمساجد وللمراكز الإسلامية كانوا يرددون هتافات منها: "المسيح.. المسيح.. المسيح"، إيحاء منهم بأن هذه المراكز هي ضد المسيح. ولذلك بدأتُ حديثي بالقول "إنني كمسلم أنا مع المسيح". و"إنني لا أستطيع أن أكون مسلماً ومعاديّاً للمسيح، لأن الإسلام يدعو إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل". وكان ذلك على بساطته وبداهته صدمة لكثيرين من جمهور الكنيسة، حتى أن العديد منهم سارعوا إلى إرسال هذا الرد على "التويتر" وكأنه اكتشاف للعجلة من جديد! ولقد حذرت في مداخلتي من أن إساءة معاملة الأميركيين المسلمين تشجع على التطرف وتعزز منطق رفض الآخر. وهي ثقافة لا تقف عند حدود، ولا تقتصر على مجتمع دون غيره. ثم إنها تتناقض مسيحيّاً مع دعوة المسيحية إلى المحبة، وتتناقض أميركيّاً مع دعوة الولايات المتحدة إلى احترام حقوق الإنسان وحقوق الجماعات دينيّاً وثقافيّاً وعنصريّاً. ولكن لابد من الإشارة هنا أيضاً إلى أن احترام الحقوق الوطنية للعربي وللمشرقي المسيحي، واحترام حريته الدينية في العقيدة والممارسة من شأنه أن يوجه رسالة إلى المجتمع الأميركي، وإلى غيره من المجتمعات التي يعاني فيها المسلمون من ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، بأن الإسلام أيضاً هو دين المحبة واحترام الأديان كلها، بل الإيمان بها كلها وحياً من عند الله، سبحانه وتعالى. وكانت المحاضرة الموسعة حول العلاقات الإسلامية- المسيحية وخاصة حول موقع المسيح وأمه مريم العذراء، عليهما السلام، وحول موقع الإنجيل في القرآن الكريم. وبعد أن استشهدت بالآيات القرآنية التي تتحدث عن هذا الأمر، تحدثت عن أول حوار إسلامي- مسيحي عقد في رحاب النبي عليه الصلاة والسلام ومعه شخصيّاً في البيت النبوي الشريف في المدينة المنورة مع وفد مسيحيي نجران. وأفضتُ في الحديث عن عهد نجران، الذي شكل مضمونه صدمة معرفية عميقة. وبعد أن توزع المؤتمرون إلى لجان عمل، انتُدبت لأكون عضواً -لا يملك حق التصويت- في اللجنة المكلفة بوضع توصية بقرار حول العلاقات مع المسلمين. ووضعت التوصية بعد نقاشات مستفيضة، ثم أقرت في الاجتماع العام بأكثرية 98.3 في المئة. وهي أعلى نسبة يحصل عليها أي قرار من القرارات التي اتخذها المؤتمر. يقول هذا القرار: "يعرب سينودس الجمعية العامة لكنيسة المسيح المتحدة عن دعمه الواضح للمسلمين سواء داخل الولايات المتحدة أو حول العالم، الذين يشعرون بانعكاسات المشاعر والأعمال المعادية للإسلام، ويندد السينودس بالأعمال التي تستهدف الإسلام والمسلمين التي تقوم على الجهل بالإسلام والخوف منه". "ويشجع السينودس جميع مؤسسات الكنيسة على البحث عن الوسائل للتعرف أكثر على الإسلام، ولإقامة علاقات أوثق مع المسلمين الأميركيين وللعمل على مكافحة ما يعرف بالإسلاموفوبيا ". مضيفاً: "إن كنيسة المسيح المتحدة تضع إمكاناتها لتوفير المصادر للتعرف وللتواصل بصورة أفضل مع المؤمنين بعقائد أخرى وخاصة مع المسلمين. وتدعو الكنيسة أبناءها جميعاً إلى رفع الصوت عاليّاً ضد الكراهية الدينية والعنصرية، وضد أعمال العنف، بما في ذلك امتهان الرموز الدينية (كالمساجد) والنصوص المقدسة (القرآن الكريم) وإلى دعم السياسات العامة التي تؤكد على قيم التنوع الديني في الولايات المتحدة". وعندما جرى التصويت على هذه التوصية أمام السينودس تمت الموافقة عليها بأكثرية 728 صوتاً مقابل 10 أصوات فقط. وفي الأسبوع التالي ثبتت الجمعية العامة القرار في مؤتمرها الذي عقدته في مدينة ناشفيل وقررت: 1- إدانة أي خطاب أو عمل معادٍ للإسلام. 2- دعوة الكنيسة إلى نشر ثقافة احترام ومحبة جيراننا المسلمين. 3- تعزيز الحوار مع المسلمين والتعامل معهم من أجل تعميق التفاهم والتعاون المشترك الإسلامي- المسيحي. وتؤكد هذه التجربة على أمر أساسي ومهم، وهو أنه ليس صحيحاً أن المجتمعات الغربية (الأميركية والأوروبية) هي مجتمعات معادية ومغلقة في معاداتها للإسلام، أو أنه لا يمكن القيام بأي عمل لتصحيح مسار العلاقة معها سوى الرد على الكراهية بكراهية مثلها. إن الواقع هو عكس ذلك. فظاهرة الإسلاموفوبيا التي تتضخم لا يوقفها الانكفاء الإسلامي الذي يعبر عن يأس من مواجهتها، وإنما توقفها الثقة بالقدرة على التصدي لها بالحكمة وبالتي هي أحسن. إن مجرد المقارنة بين صورة الاعتداءات على المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية وعلى المسلمين في العديد من المدن الأميركية، وبين القرارات التي اتخذتها كنيسة المسيح المتحدة، تؤكد أن بالإمكان تغيير هذا الوضع وطي صفحة الشك والحذر والكراهية التي أخذت أقصى مداها إثر جريمة 11 سبتمبر 2001، وفتح صفحة جديدة من الثقة والاحترام والمحبة.