مرحلة سودانية جديدة
اعترف المجتمع الدولي بدولة جنوب السودان واحتلت الجمهورية الجديدة مقعدها في الأمم المتحدة، وأكد رئيس الدولة الوليدة التزامها بمواثيق وعهود المنظمة الدولية، وبأن تكون جمهوريته قوة للسلام وحصناً لحقوق الإنسان وحسن الجوار، والتعاون الإقليمي والدولي... تماماً كما تحدث من قبل باسم السودان لدى استقلاله وزير خارجيته الأول المرحوم "مبارك زروق"! لكن الحلم الذي بذل السودانيون الوحدويون من أجله الدم والعرق والمال، أصبح صورة من صور مآسي التاريخ، فانفصل الجنوب عن الشمال وأصبح "البلد الواحد" بلدين، وهو واقع ستظل مرارته عالقة بنفوس السودانيين طويلاً.
لكن الحكمة تستدعي الاعتراف بالواقع المر والتعامل معه حفاظاً على ما تبقى من بلد المليون ميل، وألا تترك الحكومة والمعارضة فرصة للدفع بالبلد إلى مأساة أخرى وحرب جديدة، وإلا فسيتحول الخوف القديم من "صوملة السودان" إلى أمر أشد هولاً ودماراً من الصومال اليوم.
هنالك نذر تشير إلى أن السودان قد يواجه مرحلة جديدة من مآسيه المستمرة منذ مطلع الاستقلال، وهي نذر قديمة وكانت معلومة لقادة العمل السياسي السوداني، وهي من فعل التاريخ والجغرافيا وسياسة بريطانيا التي حكمت السودان حكماً مركزياً قوياً، ركزته في العاصمة والوسط بينما أهملت الأطراف وأولها الجنوب. وهي السياسة التي هيأت لهم حكم السودان بتكلفة بسيطة اعتمدت على الإدارة القبلية. ويتعجب المرأ كيف تمكنت حفنة من الإداريين من إحكام قبضتها على هذا البلد الشاسع، المتعدد والمعقد، كما تعترف مذكراتهم وكتبهم المنشورة.
وتسلم الوطنيون الحكم من الإدارة البريطانية على عجل، ولم يسعهم الوقت بعد الاستقلال، ولا العقل السياسي المستقبلي، لمراجعة نظام الحكم المركزي بكل سيئاته. وظلت الأزمة مستمرة حتى انفجر الجنوب وطالب بحقوقه، وكان تمرد الفرقة العسكرية في توريت نذيراً مبكراً لم ينتبه لها قادة الحكم الوطني وتعاملوا معه كتمرد صغير، وبدأت أولى أخطاء الحكم الوطني بالحل العسكري، حتى أصبح "التمرد" حرباً أهلية زادت منها توجهات القوات المسلحة السودانية في مختلف العهود. لكن الغريب، وبعد كل ما جرى في السودان، أن هناك من لا يزال يتحدث علناً عن أزمة جنوب كردفان والنيل الأزرق باعتبارها تمرداً ويرى الحل في تدمير قوات "الحركة الشعبية" الشمالية هناك، ويصف قادتها المنتخبين ديمقراطياً باعتبارهم "خونة"، ويهدد بمطاردتهم وقتلهم بتهمة الخيانة العظمى؟!
المطلوب الآن هو أن تخلع حكومة "الإنقاذ" جلبابها السابق وتجلس لتنفيذ ما تبقى من بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق كجزء مكمل لاتفاقية نيفاشا. ذلك واجب وطني وضمانة ضد عودة الحرب الأهلية حتى لا تتكرر مأساة انفصال الجنوب.
والحكومة تعلم أن حل أزمة دارفور لن يتم بتوقيع ورقات بينها وبين بعض أطراف نزاع دارفور في الدوحة... لأن الحل السوي إنما يأتي بالاتفاق والتراضي عبر المؤتمر القومي والتوافق على الأجندة الوطنية التي طرحتها قوى المعارضة السودانية.
إن "الجمهورية الثانية" مواجهة بمشاكل يومية؛ فالاقتصاد مأزوم، والصحة العامة تتدهور، والفقر تزداد حدته، والاعتماد على قوة السلاح لا يأتي بحل... فعلى الحكومة أن تدرك أن مصير السودان وأمره ليس ملكاً لها وحدها... والعاقل من اتعظ بغيره.