اليمين المتطرف في أوروبا
لاشك أن الحادث الإرهابي، الذي اقترفه "أندريس بيرنج بريفيك" الأسبوع الماضي وقُتل فيه قرابة سبعين شخصاً في النرويج، قد أثار فزع كثيرين. فمن ناحية، تداعت بعض المحطات الإعلامية عند بداية إذاعة الخبر زاعمة أنّ المسؤول عن هذا الاعتداء الإجرامي ربما كان مُسلماً، أو عضواً في تنظيم "القاعدة". ولكن الأخبار المتلاحقة في اليوم التالي أثبتت أنّ الفاعل يميني متطرف مُتعاطف مع الصهيونية، ويكره الإسلام والمسلمين. بينما لم يُعرف حتى الآن فيما إذا كان هذا المجرم قد قام بهذا العمل بمفرده، أو بمساعدة مجموعة متطرفة ينتمي إليها تُسمى بـ"فرسان تمبلر" أو "فرسان الحق"، وهذا اسم مجموعة من الفرسان المالطيين كان لهم دورٌ كبير في الحروب الصليبية ضد المسلمين في القرون الوسطى.
وعلى رغم كون هذا الشخص قد أعلن عبر موقعه قبل فترة من الزمن أنّه يريد استخدام أسلحة بيولوجية (الأنثراكس) ضد تجمّعات بشرية في بلده، إلا أنّ الشرطة النرويجية لم تأخذ هذه التصريحات على محمل الجدّ، بل اعتبرته نوعاً من الهذيان السياسي، لا يُعاقب عليه القانون في بلدٍ ينعم بالسلام الاجتماعي والأمان، مثل بقية البلدان الإسكندنافية.
والحقيقة أنّ هذا الفعل من قِبل هذا المجرم يثير الكثير من التساؤلات حول اليمين المتطرّف في أوروبا، الذي استطاع أن يجذب الكثير من الأنصار في عددٍ من البلدان الأوروبية، التي كانت بلداناً ليبرالية منفتحة حتى وقتٍ قريب. ففي بريطانيا، ظهر النجم الساطع لحركة الدفاع البريطانية، وهي حركة عنصرية بيضاء تُهاجم المسلمين والمُلوّنين من الهنود والباكستانيين في ضواحي المدن البريطانية، وتعتبر أنهم يهدّدون النقاء العنصري للبلدان الأوروبية.
وفي فرنسا، لعب حزب الجبهة الوطنية دوراً مهمّاً وأصبح منذ عام 2002 يحظى بحضور في البرلمان، ووصل بعض أعضائه إلى البرلمان الأوروبي في "ستراسبورج".
وفي النمسا، ظهر حزب الحرية اليميني المتطرف، وفي السويد حزب "ناي دي"، وهو حزب مماثل. وفي النرويج نفسها، يلعب حزب التقدم الوطني اليميني دوراً مهمّاً في البرلمان الوطني بمعارضته لسياسات الهجرة واللجوء السياسي في ذلك البلد النفطي الغني.
ولعلّ بروز هذه الأحزاب يعود في المقام الأول كرد فعل ضد الهجرة المسلمة الكبيرة من البلدان الآسيوية ومن بلدان شرق أفريقيا المنكوبة بالحروب والمجاعات. كما أنّ تجمّع المسلمين في هذه المدن في مناطق فقيرة متكدسة يجذب إليهم عداوة هؤلاء العنصريين. وقد وصل الأمر بهؤلاء العنصريين إلى تأسيس ما سمّوه برابطة "الإخوان المسيحيين" كرد فعل ضدّ الوجود الإسلامي في بلادهم، التي هي أصلاً بلاد علمانية تضمن دساتيرها حرية الأديان وحرية العبادة.
وتلعب الأحوال الاقتصادية المتدهورة في بعض البلدان الأوروبية دوراً في تأجيج العنصرية، وكذلك فإنّ وجود الزعامات الكاريزمية تلعب دوراً مماثلًا في جذب الأتباع والمريدين. وهناك بعض من الزعماء اليمينيين المتطرفين القادرين على اجتذاب جمهور المُعجبين، ومنهم "جيرت فيلدرز" في هولندا، و"لوبان" في فرنسا، وغيرهما كثر.
وقد اضطرت بعض تلك الأحزاب في أعقاب هذه الحادثة إلى التنصل من الجريمة الإرهابية المقترفة، وذهب بعضها إلى حد الاعتذار عن هذه الجريمة، وحاول القول إن الإعلام المنحاز لم يروِ قصة الجريمة بشكل محايد، بل إن قضية "بريفيك" مغيّبة عن فهم الآخرين. وادعى بعضها أنها جماعات لا تميل إلى العنف، بل لقد وصل الأمر بحركة الدفاع البريطانية إلى وصف نفسها بأنها منظمة حقوقية تحمي حقوق الإنسان. وظهر تومي روبنسون، زعيم الحزب، على التليفزيون البريطاني في 25 يوليو، ودافع عن منظمته بأنها تحوي عدداً من الملونين المعادين للحركات الأصولية الإسلامية، وأنها تحارب العنف والتطرف.
ومثل هذا الدفاع برز أيضاً في البيان السياسي الذي أصدره السياسي الهولندي المتطرف، "جيرت فيلدرز"، حيث أكد أن حزب الحرية الهولندي الذي يتزعمه، يستنكر أحداث أوسلو ويتعاطف مع الشعب النرويجي. واتهم البيان "بريفيك" بأنه مختل عقليّاً، وبالتالي فهو غير مسؤول عن أفعاله، غير أنه يستلهم عنفه من منظمة "القاعدة". كما هاجم البيان "المانفيستو" الذي سبق أن أصدره المجرم، حيث أثنى فيه على حزب الحرية الهولندي، وقد سبب ذلك الكثير من الحرج لهذا الحزب الذي حاول أن يدعي أنه حزب "ديمقراطي" لا يميل إلى العنف.
أما مواقع التواصل اليمينية الأوروبية فقد حملت الكثير من التفاعلات، فقد ذهب بعضها إلى إدانة السياسيين الأوروبيين الليبراليين الذين يخشون ويداهنون الجماعات الإسلامية في بلدانهم. وأثارت بعض المداخلات أيضاً موضوع صهيونية "بريفيك" ودفاعه عن إسرائيل. فدافع بعضهم عن هذا الموقف، بينما تساءل آخرون عن مدى ضرورة ربط المسألة القومية في نظرهم بالتصهين ودعم إسرائيل.
وبينما يرى العديد من المحللين بأنّ تأثير هذه الأحزاب والتيارات السياسية اليمينية المتطرفة محدود وهامشي، إلا أنّ اقترافها لأعمال إجرامية وتنظيمها لمظاهرات صاخبة يجذب اهتمام الإعلام بها، وتعطيها تلك المظاهرات كثيراً من الدعاية السياسية المجانية، وتخلق رأياً عامّاً يعادي الأجانب وينحاز ضد المهاجرين المسلمين. كما أنّ السياسات التي تطالب بها هذه الجماعات تصبح فيما بعد جزءاً من السياسات والقوانين الحكومية التي تسنّها أحزاب الوسط حين تصل إلى الحُكم. ولعلّ أكبر مثل على ذلك ما تقوم به أحزاب اليمين والوسط في فرنسا وبلجيكا التي طبقت قبل فترة قصيرة قوانين غير دستورية تحدّ من قدرة الأفراد على ارتداء ما يروق لهم من لباس.
وكلّ ذلك يهدف في النهاية إلى مضايقة الأجناس والأديان غير المسيحية وأتباعها الذين يقطنون البلدان الأوروبية، خاصةً من المسلمين، وجالياتهم التي يعتبرها اليمين المتطرف خطراً يُهدِّد الثقافة الأوروبية، والمسحة البيضاء لتلك البلدان.