تشهد الآن الخطابة السياسية والإعلامية في مجال العلاقات الدولية حالة سيولة مفهومية غير مسبوقة، لا تني تظهر فيها كل يوم مفاهيم وتسميات جديدة، تستولدها وتستدعيها تطورات وتدافعات المشهد الدولي الراهن. وفي هذا المقام أصبح من الدارج سماع كلمات من قبيل اللاعبين من غير الدول، وتحولات القوة، والتحالفات الضمنية، وتحالفات الاختيار، والحروب العادلة، والاستباقية، وسوى ذلك، من مفاهيم حاكمة قد تشكل على القارئ أو المتلقي العادي للخطاب السياسي- الإعلامي اليوم. ولتفكيك وتبسيط بعض ما في هذه المفاهيم من إحالات نظرية ودلالات سياسية، وما قد تستبطنه أيضاً من مواقف دعت أصلاً لصكها أو استخدامها أو التحفظ على هذا الاستخدام، يأتي كتاب المنظر السياسي والصحفي الفرنسي "برتراند بادي" الموسوم: "العالم الجديد... دفاتر ما بعد الحرب الباردة" الذي أصدرته مؤخراً صحيفة لوموند والمركز الوطني للبحث العلمي في باريس. على أن هذا الكتاب ليس فقط محاولة تفكيك مفهومية أو إعادة تعريف لعبارات سارية وظواهر مستجدة في العلاقات الدولية، وإنما يسعى المؤلف بالأساس على امتداد صفحاته الـ 348 لرسم ملامح المشهد الدولي في عالم اليوم بكل ما يعرفه هذا المشهد من تحولات وانقلابات في موازين القوى، وبكل ما يطفح فيه من هبوط أو صعود لتيارات متناقضة وسياسات متعارضة، هي ما ظل يسيج العلاقات الدولية منذ سنة 1989 وحتى الآن. ويتشكل العمود الفقري للكتاب من نصوص وقصاصات وخلاصات شهرية اعتاد "بادي" على إعدادها في حوار شهري تنظمه له صحيفة لوموند مع قرائها الإنترنتيين، حيث يطرحون عليه فيه أسئلة واستفسارات حول مجمل قضايا الساعة على المسرح الدولي، ويستفسرون حول كل ما يستغلق عليهم من أسماء ومسميات سارية في الأخبار وفي التداول الإعلامي، ولذلك اكتسى الكتاب من هذه الخامة التحريرية تنوعه غير العادي في الموضوعات، وراهنية المسائل التي يطرحها ويناقشها بين دفتيه. ولعل من أبرز القضايا التي أولاها "بادي" اهتماماً خاصّاً في معظم تحليلاته صراعات الشرق الأوسط، وسيولة أطر التحرك المتاحة للدبلوماسية الدولية، كما يولي أهمية استثنائية أيضاً لرصد التحولات في الفضاء الدولي المرشحة الآن أكثر من غيرها لرسم ملامح المستقبل، وفي المقدمة من ذلك طبعاً مسائل من قبيل أفق صعود الدول البازغة والدور المتعاظم الذي يتوقع أن تلعبه في تسيير وإدارة المشهد الدولي خلال العقود المقبلة، مع ما يعنيه ذلك من خصم وتآكل لهوامش تصرف وزعامة الدول العظمى التقليدية، وتاليّاً تفكيك بعض أكثر وثوقيات الغرب الأوروبي والأميركي رسوخاً وقوة حضور حتى الآن. وفي هذا المقام تحديداً، مقام تراجع الغرب، يولي المؤلف اهتماماً كبيراً أيضاً لإخفاقات أوروبا الراهنة، وتآكل مظاهر الأحادية القطبية الأميركية، التي ظهرت أصلاً منذ نهاية الحرب الباردة فيما سمي حينها بالنظام العالمي الجديد. وينطلق "برتراند بادي" كذلك في كثير من تحليلاته من فرضية عمل مؤداها أن نهاية الحرب الباردة واختفاء نظام الأحادية القطبية رافقتهما في الواقع ظاهرة أخرى لا تقل عنهما أهمية ولا تأثيراً في المشهد الدولي، هي ما يسميه بداية- نهاية النظام الويستفالي في العلاقات الدولية. إذ من المعروف أن النظام العالمي القائم على الدول الوطنية كوحدات، كان قد ظهر أصلاً في أوروبا مع اتفاقية ويستفاليا الشهيرة سنة 1646 التي أسست لنظام دولي لا يعترف سوى بالدول الوطنية، ذات السيادة المطلقة على أراضيها وفوق حوزاتها الترابية. والحقيقة أن هذا النوع من الدول الوطنية الذي ظهر في أوروبا أصلاً ظل هو الوحدة المعتمدة في العلاقات الدولية، وامتد إلى بقية قارات العالم خلال القرون اللاحقة، على نحو تكشف عن النظام الدولي الحديث والمعاصر. غير أن مرحلة ما بعد الاستعمار وظهور الثنائية القطبية خلال القرن الماضي أديا في المحصلة إلى بداية تفكك النظام الويستفالي في العلاقات الدولية، ومن ورائه تفكك المركزية الأوروبية، ومن ثم الغربية، إذ إن الـ194 دولة اليوم المعترف بها في الأمم المتحدة، لا تشكل الدول الوطنية الغربية بينها سوى أقلية صغيرة. وبعد انهيار نظام الثنائية القطبية منذ قرابة عقدين، بدأت تظهر ملامح نظام دولي جديد "لاقطبي" بحسب تعبير "برتراند بادي". بل إن الدول نفسها لم تعد هي اللاعب الوحيد على الساحة الدولية، حيث دخلت على الخط المنظمات غير الحكومية، والشركات متعدية الجنسيات، ومنظمات العنف السياسية، ووسائل الإعلام، وبذلك لم تعد العلاقات الدولية شأناً خاصاً بالساسة أو الجنرالات، بل لقد نزلت من أبراجها العاجية وأصبحت مجالاً مفتوحاً للتأثير من قبل اللاعبين غير الدول والرأي العام والجمهور العريض. كما أن روح الشراكة والتعددية في اتخاذ القرارات الوطنية، والدولية، أصبحت هي الملمح الأساسي والرهان الوحيد لأية فاعلية سياسية، قابلة للاستدامة والوقوف على شرفة المستقبل. حسن ولد المختار --------- الكتاب: العالم الجديد.. دفاتر ما بعد الحرب الباردة المؤلف: برتراند بادي الناشر: لوموند – CNRS تاريخ النشر: 2012