بدأت الساحات الغربية ونواديها الفكرية والإعلامية تعج بكتابات وتحليلات وبرامج عن أسباب نمو الحركات الإسلامية في وطننا العربي، وغالب هذه التحليلات، للأسف الشديد، لا تخرج عن تلك التي كانت سائدة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما كان يشار إلى الأحزاب الإسلامية على أنها العدو اللدود للديمقراطية، وأنها إذا وصلت اليوم إلى الحكم فإنها بذلك تكون قد سرقت بذور الثورة وسقتها بمائها المتعفن، وأن الأحزاب الليبرالية إنما كانت مغمورة في زمن السلطوية السياسية، وأن أجنحتها قد قطِعت بمقص حاد، ولذا فهي تحتاج إلى زمن غير يسير لتتمكن من إيجاد الدواء لتكبر أجنحتها من جديد ولتمثل مجال السياسة أحسن تمثيل. سأحاول في هذا المقال التوقف عند أسباب نمو تلك الأحزاب وعن بعض من جوانب استثمار الدين في المجال السياسي وتداعياته: - تقتضي الأمانة الفكرية والعلمية أن نعزو حضور تلك الأحزاب ذات الخلفيات الإسلامية، مقارنة مع الأحزاب السياسية الأخرى، إلى كفاءاتها التنظيمية، إذ يجمع المراقبون مثلاً في الشأن السياسي المغربي على أن حزب العدالة والتنمية هو الحزب السياسي الأكثر تنظيماً والأكثر تحكيماً لآليات الديمقراطية في أجهزته الداخلية من حيث عقد اجتماعاته الدورية وتجديد النخب وتواصله الدائم مع أعضائه وقواعده مقارنة مع أحزاب قديمة كحزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي. -إن الأحزاب الإسلامية لها قدرة على تعبئة الناس انطلاقاً من عاملين أساسيين: العامل الأول: استغلال منظمات المجتمع المدني التي تشتغل كثيراً في المجالات الاجتماعية وفي الأوساط الفقيرة والشعبية، وغالباً ما تكون تلك المنظمات قريبة من الأحزاب الإسلامية، فتكون بمثابة الخزان الانتخابي لها في حشد الأصوات وحث العام والخاص على التصويت لها في الانتخابات، بمعنى أن الأحزاب الإسلامية تعمل في حقل هجرته الأحزاب اليسارية والليبرالية على السواء إلا النزر القليل منها. والعامل الثاني: تفاعل أفراد الجمهور المجتمعي مع خطاب الأحزاب الإسلامية الذي يحرك ساكنهم ويتطرق إلى فقرهم وحرمانهم وتهميشهم داخل المجال السياسي العام والمجال الاقتصادي، والتنديد الدائم بسطوة جزء من الأغنياء الذين اغتنوا من مال الدولة أو من ظروف لا تتاح إلا لأمثالهم، ونجد سوابق لمثل هذه الخطابات عند القوميين والماركسيين العرب، ولكن بعيداً عن المشترك بين الخطابات، تتفرد الأحزاب الإسلامية على حد تعبير الأستاذ عبدالإله بلقزيز باستثمار الرأسمال الديني حيث "يتعلق الأمر بالرموز الدينية الإسلامية المستدعاة لخلق المشروعية الدينية على المشروع السياسي الحركي الإسلامي مثلما يتعلق بالنجاح في مخاطبة الذهنية الشعبية العامة المتمسكة بالرمز الديني، وهو ما فعلته الحركات الإسلامية منذ ثمانية عقود، لا ينفصل عن إدراكها لطبيعة تلك الذهنية العامة السائدة لدى الأغلبية الساحقة من الشعب. ولأن الحركات الإسلامية لا تعوزها البراغماتية، بل هي فيها معلمة ولأنها ليست جماعات وعظ وإرشاد دينية، بل تيارات حزبية قامت من أجل حيازة السلطة، فإنها جنحت للتعبئة الحزبية من المداخل الدينية: مخاطبة الجمهور بالمفردات التي يفهم، وبالتناسب مع ذهنيته وأفكاره الموروثة عن مئات السنين (...)". وإذا انتقدت الأحزاب الإسلامية في استخدام الموروث الثقافي الديني والرأسمال الديني، فإنها تجيب بأنه ليس هناك أحد يمنع الأحزاب اليسارية من توظيف الدين في تعبئتها السياسية، وبقطع النظر عما إذا كان المنحى سليماً في أدبيات العلوم السياسية المقارنة فإن الحركات الإسلامية وجدت في هذا الاستثمار تجارة سياسية مربحة لن تبور في المدى القريب. أما في المدى المتوسط والبعيد، فهناك احتمالات: - الاحتمال الأول: أن تنجح الأحزاب الإسلامية كما هو الحال في المغرب وتونس وغيرها من البلدان التي لها، أو يمكن أن تكون لها، دساتير متقدمة من الجيل الجديد، في تحقيق النمو الاقتصادي وتطوير عجلة الاقتصاد وتحقيق الرخاء وتقوية القدرة الشرائية للمواطنين والقضاء على البطالة آنذاك، ومع انسحاب الإدارة من التدخل في نتائج الانتخابات، ستبقى تلك الأحزاب ولمدة طويلة في الحكم. - الاحتمال الثاني ألا تنجح الأحزاب الإسلامية في تحقيق النتائج التي قطعتها على نفسها كوعود للناخبين، وفي هذه الحالة سيعترف بالفشل وسيزيل الإسلاميون عن أنفسهم جلباب القدرة على إنجاز ما لم ينجزه الآخرون، إذا احتكموا إلى الرأسمال الديني الذي يحرم الكذب في علاقة الحاكم بالمحكوم، ولم يحتكموا إلى ويلات وألاعيب السياسة التي تجيز الدهاء والدبلوماسية ورمي الكرة على الآخرين عند الفشل. والراهن أنه مع الأزمة الاقتصادية العالمية التي تزيد تراكماً، وتداعياتها غير المعلنة على العديد من الأوطان العربية، فإن مجال الإبداع الاقتصادي والاجتماعي للأحزاب الإسلامية التي تصل تباعاً إلى كراسي الحكومات العربية سيبقى محدوداً، والمهم أنه إذا لم تتعثر عجلة السير في منتصف الطريق ستحقق نتيجتان: - أن الأحزاب الإسلامية في البلدان التي لها قوانين سامية متقدمة تكون قد ذاقت حلاوة ومرارة السياسة وقد تنتقل إلى أحزاب محافظة تاركة الدين للجميع دون أن تقحمه في مسرح السياسة. - أن وعي الشعوب سينضج أكثر، وبما أن الديمقراطية تكون قد بدأت في إعطاء ثمارها، فإنه حتى الطبقات المتوسطة والفقيرة ستصوت لأحزاب غير إسلامية تؤمن أنها قادرة على جلب رغيف الخبز، وستفهم مثلاً أن عليها أن تركب مع ربابنة طائرة لهم شهادات عليا في القيادة، وقدرة على معالجة تقلبات الجو الخطيرة أيّاً كانت انتماءاتهم وألوانهم الحزبية، وحيث لا مجال للشعارات الرنانة والمدوية.