كنا قد تحدثنا في مقالتين اثنتين سابقتين عن مسألتين مرتبطتين بثلاثية ذات أهمية تأسيسية ضمن استراتيجية النظام في سوريا، تلك الاستراتيجية التي تمارس الدور الحاسم حالياً ها هنا. وكانت الأولى قد دارت حول "المؤامرة الخارجية" ضد سوريا، كما يرى الخطاب الرسمي. أما المقالة الثانية فتصدّت لمن يتحدث عنهم ذلك الخطاب تحت عنوان جامع هو "المُندسُّون والإخوان والسلفيون". وقد نُظر إلى هؤلاء من قِبل الخطاب المذكور على أنهم هم منْ يُطلَق عليهم "الطابور الخامس" الذي تُناط به -في مثل هذه الحال- وظيفة العمالة للأعداء الخارجيين، خصوصاً في مراحل الحروب. ومن ثم، يمكن تلخيص الموقف المعني هنا من قِبل الخطاب السوري، بكونه ممثَّلاً بأعداء سوريا الداخليين المتواطئين مع أعدائها الخارجيين المؤلَّفين من الأميركيين والصهاينة والماسونيين. أما إذا طرحنا السؤال التالي على أصحاب هذا الخطاب: هل الأزمة الخطيرة القائمة في سوريا حالياً تتلخص بوجود ذينك الفريقين، الأعداء الخارجيين (من الاستعمار والصهيونية والماسونية والإمبريالية...إلخ) الذين يريدون "المؤامرة" من الخارج، ضد سوريا من طرف، والتآمريين الداخليين عملاء أولئك الخارجيين الذين يأتمرون بأوامرهم من طرف آخر؟ نقول إذا طرحنا السؤال على هذا النحو، فإن سؤالاً آخر سيفرض نفسه وهو التالي: وما موقع الشعب السوري وشبابه خصوصاً، من ذلك كله؟ في ذلك الطرح الزائف، الذي يلخص موقف النظام السوري من الأزمة المعنية، يُغيَّب "اللاعب الأكبر"، أي الحامل الاجتماعي والسياسي والثقافي والتاريخي للتغيير في سياق "الربيع العربي" في تونس ومصر وليبيا واليمن، إضافة إلى سوريا. إن الخطأ المعرفي المنهجي والسياسي، الذي تقع فيه استراتيجية النظام السوري، يتمثل في فهم "الداخل السوري" نفسه، والذي يُستباح هنا ويتم إخراجه من المسرح التاريخي، ليُستبدل بمجموعة من المتآمرين السوريين، الذين تربّوا في أحضان صُناع المؤامرة الخارجية على مدى يتجاوز الأربعة عقود، "دونما حضور لأي فاعل وطني سوري"، إلا في أوساط أجهزة المخابرات والجيش المُنتقاة كوادره القيادية على نحو لا يستجيب لتعددية المجتمع السوري. وهذا يعني أن إبعاد الداخل السوري عن البحث السوسيولوجي والسياسي، في سياق التصدّي للأزمة السورية، إنما يعني التَّعْمية عليه، أي على القوى الحية فيه التي انتفضت من أجل ما حُرمت منه، أي الحرية والكرامة والكفاية المادية. ففي هذا الموقف تكمن إدانة شنيعة لشباب سوريا (رجالاً ونساء) من الذين يصنعون تاريخاً جديداً لبلدهم. وإذا كانت تلك الإدانة مُوجهة لأولئك، فثمة نقد حاسم للخطاب السوري يتمثل في التشويش على جدلية الداخل والخارج، والتي بمقتضاها لا يمكن لخارج ما أن يخترق داخلاً ما، إلا إذا كان هذا الداخل مهيأً لذلك. وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: ألم تكن أربعة عقود كافية لفتح ملف الداخل السوري إصلاحاً وتطويراً وتحديثاً، عبر الإمعان في مواجهة فساد يستوجب الإفساد، وفي إفساد يعيد إنتاج الفساد ضمن حركة رباعية تتمثل في الاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والمرجعية (أي القول بأن الحزب الحاكم يقود الدولة والمجتمع) بمفرده وإلى الأبد، دونما ضوابط قانونية وحقوقية وسياسية وأخلاقية؟ كم أصبح الأمر جديراً بأن يوضع على بساط متوهج من البحث العلمي، كي تتوقف احتمالات الانزلاق بالمجتمع السوري إلى مهاوي حرب أهلية أو إقليمية، تمثل استعادة ملتهبة لصيغة جديدة من اتفاقية "سايكس -بيكو"!