موسكو وواشنطن...جدل "التدخل"
عندما يطرح أوباما، رئيس الدولة العظمى، مبدأ عدم التدخل العسكري لحل صراع في دولة ما، فهذا خبر جيد، بل تاريخي، يؤسس لنمط جديد من العلاقات مع الدول والشعوب، كما يقترح على المجتمع الدولي مقاربة أخرى لحل النزاعات الإقليمية. يبقى أن يصدّق العالم أن هذا المبدأ أصيل وهادف، والأهم أنه عملي وفاعل في إيجاد الحلول في الوقت المناسب. أما أن يُعطى كل الوقت اللازم لإراقة الدماء ومفاقمة الانقسامات وتصدّع الخرائط، وأن يكون هناك تدخل مباشر أو غير مباشر في كل ذلك، ثم يقال إن التدخل غير محبذ لأنه قد يتسبب بحروب أهلية، أو أنه غير ممكن بحجة تعذّر الاتفاق في مجلس الأمن، فهذا يطرح علامات استفهام حول الأهداف الحقيقية لـ"عدم التدخل".
واقعياً، قد لا يكون التدخل مستحباً، ثم إن تجارب كثيرة أحدثها في العراق وليبيا انتهت إلى وقائع أقل ما يقال فيها إنها مثيرة للجدل، أو إنها أدت إلى نتائج كارثية على الأرض من أخطرها أن الأنظمة المستبدة التي وجب إسقاطها وتغييرها كانت نجحت ظاهرياً في توطيد "وحدة" بلادها ومجتمعاتها، حتى إذا انهارت لابد أن تظهر الشقوق والفوارق ولا تعود الفئات والمكوّنات قادرة على التعايش في ما بينها. وفي كل الأحوال كان هناك "تدخل"، قبل وبعد، لذلك فإن عدم التدخل -إذا كان صحيحاً- يجب أن يطبّق "قبل"، وإذا طرحه رئيس الدولة العظمى فلا بد أن يكون ضامناً أنه في صدد تأسيس نظام دولي جديد، وأن بقية الدول راغبة في أن تكيّف مصالحها مع قواعد مختلفة ليس بينها أي تدخل في شؤون الغير.
لكن الأمم المتحدة التي قامت على أسس احترام السيادة لا تستبعد الضرورات التي تحتم عليها التدخل، خصوصاً عندما يكون المدنيون يتعرضون لمخاطر دموية واضحة، أو عندما يبلغ نظام ما درجة من الإجرام والوحشية لا تترك مجالاً للتردد. غير أن أسوأ ظواهر ما بعد انتهاء الحرب الباردة رسمياً، كانت في استمرار تلك الحرب بأساليب ووسائل أخرى، مما عطّل المنظمة الدولية وأدى إلى تعجيزها. هذا ما شهده العالم في حال كوسوفو، وما يشهده اليوم في حال سوريا. فنتيجة للسلبية الروسية المعرقلة، وضعف الدوافع الأميركية أو الغربية عموماً، يصبح الواقع المفضل أن تفلت المنازلة الدموية رغم أن الجميع يعرف ما هو مؤداها، حتى إذا باغتت الصور المروعة اللاعبين الكبار في إدارتهم لشراء الوقت -كما في مجزرة الحولة- يبدأون الحراك لعل جثث الأطفال تساعدهم في صنع مقاربة أخرى للأزمة، ليكتشفوا أنهم لا يزالون يراوحون مكانهم.
غداة المجزرة لم تجد روسيا أن هناك ما يستحق فعلاً تغيير قواعد اللعبة. وعندما وافقت على بيان الإدانة في مجلس الأمن صوّرت الأمر، وكأنه "تنازل" تقدم عليه، فقط من أجل امتصاص الغضب والسخط على نظام أقنع موسكو أو هي أقنعته بأن المجزرة من ارتكابات "عصابات مسلحة". الأكثر إيلاماً هو التراشق بالاتهامات بين موسكو وواشنطن، فكل منهما تتهم الأخرى بأنها تتسبب في نشوب "حرب أهلية". ثم أن الروس استنكروا "الاستنتاجات" المستندة إلى مجزرة الحولة لتبرير تدخل عسكري غربي في سوريا. ورد حلف الأطلسي نافياً جملة وتفصيلاً. بل جلست وزيرة الخارجية الأميركية تعدد بالتفصيل مواقع الخيار العسكري: قوة الجيش السوري، الموقف الإيراني، غياب قرار دولي (الممانعة الروسية). لكن الواقع أن الروس يحذرون من أي تدخل فيما هم يتدخلون لمصلحة النظام (تسليح مستمر، رعاية مباشرة في التخطيط، دعم دولي...)، كما يحذرون من الحرب الأهلية ويقولون إنهم يعملون للحؤول دونها إلا أنهم يساندون النظام في استدراجه سوريا إلى هذه الحرب.
يدفع الشعب السوري ثمن هذا الجدل الدولي دماً، وفقد النظام كل مقومات مساعدة داعمية في عملية إنقاذه التي باتوا يعرفون أنها مستحيلة. أصبح معروفاً أن "عدم التدخل" الأميركي له علاقة بالانتخابات الرئاسية بمقدار ماله علاقة بالأهداف الإسرائيلية، فلماذا التدخل طالما أن هذه الأهداف تتحقق بفضل النظام السوري والأخطاء التاريخية التي يرتكبها. فحتى روسيا التي تعتقد أنها تدافع عن مصالحها إنما تخدم تلك الأهداف طالما أنها تؤخر سقوط النظام وتساهم في التعجيل بتفتت سوريا.
عبدالوهاب بدرخان
كاتب ومحلل سياسي- لندن