مستقبل النظام العربي
لبيتُ دعوة كريمة من مؤسسة شومان ذات الدور التنويري، وذلك لإلقاء محاضرة عامة بمقر المؤسسة مساء يوم الاثنين الرابع من الشهر الجاري. أرحب عادة بهذا النوع من الدعوات -خاصة في الموضوعات التي ما زالت تثير الجدل- ليس كآلية لنقل الأفكار وإنما لتوليدها، وهو ما تساعد عليه طبيعة جمهور المحاضرات العامة التي تنظمها المؤسسة، إذ يتكون من نخبة رفيعة المستوى ومواطنين على درجة عالية من الوعي والاهتمام، وهكذا تكون المناقشات في هذا السياق أهم بكثير مما يقوله المحاضر من أفكار ليست موضع اتفاق.
بدأت حديثي بتمهيد عن أوضاع النظام العربي قبل "الربيع"، ففي ذلك الوقت كان قد مر على النظام عقدان على الأقل من التراجع والتردي، ولا نستطيع أن نناقش أثر المتغيرات الجديدة على النظام ما لم نلم بأوضاعه قبل حلول هذه المتغيرات. ذكَّرت بالغزو العراقي للكويت في 1990، وما استتبعه من انقسام عربي- عربي غير مسبوق، وتدخل عسكري مباشر من قبل القوة العالمية الأولى، وهو ما تلاه بالمنظور التاريخي الغزو الأميركي للعراق في 2003، وعجز النظام العربي عن التصدي له ولو دبلوماسياً، إلى درجة اعتراف الدول العربية بالحكومة التي أقامها الاحتلال في العراق ممثلة له في جامعة الدول العربية، وهو ما كان يعني ابتداءً اتخاذ موقف التجاهل التام لمقاومة الاحتلال، وهو موقف تطور لاحقاً بمناسبة العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006 وعلى غزة في 2008/2009 إلى الاعتراض على المقاومة وسلوكها، واعتبارها مسؤولة عن العدوانية الإسرائيلية. انتقلت بعد ذلك إلى تراجع الموقف العربي تجاه عملية تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي بمطالب عربية أقل وتنازلات أكثر في المبادرة التي أصبحت عنواناً للموقف العربي، والتي تبنتها قمة بيروت في 2002.
لهذا السبب أوضحت أنه كان هناك رهان عالٍ على ما أصبح يسمى "الربيع العربي" بخصوص إصلاح الأوضاع العربية، فقد اشتكى مثقفون عرب عديدون عبر العقود من أن غياب الديمقراطية هو سبب تردي النظام العربي، ومن ثم كان هناك أمل في أن انتشار الديمقراطية في الوطن العربي يمكن أن يكون آلية رئيسية لإصلاح أوضاعه. من ناحية ثانية راهن كثيرون على عودة الدور المصري بعد ثورة يناير2011 كناظم للأوضاع العربية، بعد أن ظل معتقلاً طيلة عقود منذ دُشِنَت سياسة التسوية مع إسرائيل في سبعينيات القرن الماضي. ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فقد مر كل الدول العربية التي طالها مد "الربيع" دون استثناء بفترة صعبة من فترات عدم الاستقرار الداخلي مما يؤثر أصلاً على درجة اهتمامها بالأوضاع الخارجية عامة والعربية خاصة، ويبدو أنه ما زالت أمامنا فصول قد تطول في كتاب عدم الاستقرار. أما مصر -وباستثناء بعض التطورات الإيجابية الجزئية في سياساتها تجاه إسرائيل بما يجعلها أقرب في هذا الشأن إلى السياسات العربية، وكذلك بعض التطورات الجزئية الإيجابية لسياستها الأفريقية- فلا يمكن القول إنها قد استعادت دورها السابق في النظام العربي، سواءً لأنها عرفت بدورها ظاهرة عدم الاستقرار بعد الثورة التي عجزت في الوقت نفسه عن بلورة مؤسسات جديدة تعكس روح الثورة داخلياً وخارجياً، ناهيك عن محاصرتها بأزمة اقتصادية خانقة دفعت المسؤولين فيها إلى الاستعانة بالخارج، وكمبدأ عام تمثل هذه الاستعانة قيداً على حركة السياسة الخارجية لأية دولة. وقد حرصت في نهاية هذه الجزئية على أن أبين أن هذه التطورات المحبطة لا تنبع من طبيعة التغيرات الثورية التي وقعت، وإنما من الظروف التي أحاطت بها، ومن ثم فإن الرهان الإيجابي على هذه التطورات ما زال قائماً، ولكنه للأسف ليس أملاً في المدى القصير وربما المتوسط.
استشهدت بعد ذلك بعدد من التطورات للدلالة على هذا الرهان المحبَط، وكان أداء النظام العربي فيما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي خير شاهد على ذلك، فما زال الموقف العربي عامة والفلسطيني خاصة تجاه هذا الصراع قائماً على التعلق بأهداب تسوية لن تجيء طالما بقي ميزان القوى الإسرائيلي-العربي عامة والإسرائيلي- الفلسطيني خاصة على ما هو عليه، وليس تغيير هذا الميزان وجعله أكثر توازناً بما يمكن العرب والفلسطينيين من تحقيق إنجازات في عملية التسوية بالأمر السهل، فهو يحتاج سنوات طويلة من العمل الدؤوب لبناء القوة العربية- الفلسطينية الذاتية، ومن هنا فإن أي حديث عن تعديل معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية أو إلغائها من طرف واحد يبقى حديثاً أجوف، طالما أنه لا يستند إلى تغيرات جوهرية في معادلات القوة بين العرب وإسرائيل.
استشهدت كذلك بالخطر الذي باتت الدولة الوطنية العربية تتعرض له في أعقاب "الربيع العربي". صحيح أن هذا الخطر قد بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي بما وقع في الصومال، وهدد الكيان العراقي -وما يزال- بعد الغزو الأميركي في 2003، وعصف بتماسك لبنان خاصة بعد العدوان الإسرائيلي في 2006، وأدى إلى انقسام حقيقي لا يصدق بين "حماس" وقد اتخذت من غزة قاعدة للحكم و"فتح" التي تمارس في الضفة الغربية السلطة الفلسطينية المعترف بها دولياً، وذلك عقب الصدام الدموي بين الفصيلين في 2007. وبلغت الظاهرة الذروة بانقسام السودان إلى دولتين في يوليو الماضي، وأضيف لهذا كله بعد أحداث "الربيع العربي" تطور الحراك الجنوبي في اليمن باتجاه المطالبة بالانفصال، بحيث أصبح المعتدلون هم الذين يقبلون الصيغة الفيدرالية للوحدة، علماً بأن المرء بات يتشكك دائماً فيمن يتحدثون عن الفيدرالية خشية أن يكون النموذج العراقي هو مرجعيتهم. وقد حدث هذا في الوقت الذي كان من المتصور فيه أن يكون النضال المشترك لكلٍ من شمال اليمن وجنوبه ضد النظام السابق خير حماية للوحدة، خاصة وقد أفضت الثورة إلى تسوية بات معها كل من رئيس الدولة ورئيس الوزراء من الجنوب. كذلك خرج علينا مؤتمر حضره ألفان أو ثلاثة من أبناء إقليم برقة في مارس الماضي بإعلان النية في تكوين إقليم اتحادي، وعلى رغم أن المؤتمرين أوضحوا أن نيتهم بالفعل هي الفيدرالية، إلا أن التطورات السيئة في هذا الصدد تبدأ عادة على هذا النحو.
مررت بعد ذلك على قضايا عدة مثل الإجهاض الذي تعرضت له حتى الآن محاولات إحياء التجمعات الفرعية بدعوة العاهل السعودي في ديسمبر الماضي إلى تحويل مجلس التعاون الخليجي إلى اتحاد، ودعوة الرئيس التونسي في الشهر التالي إلى تفعيل الاتحاد المغاربي، وهما محاولتان لم تثمرا حتى الآن، ربما لأن العقبات الماثلة في طريق تحقيق هذه الأهداف أكثر تعقيداً من مجرد مبادرة سياسية، ومثل احتمال تحول النظام العربي إلى نظام إسلامي، والعقبات التي لا تجعل تجسيد هذا السيناريو على أرض الواقع مسألة سهلة. لم يكف الوقت للأسف لمناقشات ممتدة، ولكن جُل الاهتمام فيما دار من مناقشات ركز على المواقف الخارجية تجاه "الحراك العربي"، ومدى قدرة هذه المواقف على تطويقه، وقد قللت في تعليقي على هذه التساؤلات من قدرة "الخارج" على التأثير على "الداخل" العربي، لأن مد "الحراك" أحدث تغيرات في وعي الجماهير واستعدادها للمشاركة في شؤون الوطن بما يصعب على "الخارج" أن يفرض تصوراً معيناً على "الداخل". وبصفة عامة عكست المناقشات مدى الأهمية التي يوليها قطاع من النخبة العربية لبناء مستقبل عربي جديد.