يعرف الاستشراق في الاصطلاح الأكاديمي بأنه الدراسة الغربية للشرق الإسلامي متمثلا في آدابه وفنونه وتاريخه وعقائده وسائر مظاهر حضارته. وفي كتابه الذي نعرضه هنا يعرفنا الباحث المعماري الأردني رائد أرناؤوط على أحد أوجه اهتمامات الاستشراق والمستشرقين، ألا وهو "الاستشراق في العمارة العربية"، متفحصاً بعض الأبعاد الأساسية في "إشكالية بناء الفكر والهوية" داخل حقل العمارة الإسلامية. ويتركز الجزء الأول من الكتاب على الجذور المعرفية والإشكاليات البنيوية للاستشراق، خاصة بدايات تكوينه الأولى، والسمات الموسوعية لبعض المستشرقين، ثم يطل على "الاستشراق السياسي والسلطة المعرفية" في العصر الحديث. كما يعرج على "أبعاد المعرفة الاستشراقية الحديثة"؛ مجالاتها، وأدواتها، ومنهجياتها المعرفية... قبل أن يبين أوجه التجديد في الاستشراق المعاصر، وكيف استطاع توظيف المناهج الغربية الحديثة. أما أزمة الاستشراق، فيعرضها المؤلف من خلال نتاجات مفكرين عرب، خاصة "تأزيم الاستشراق عند أنور عبدالملك"، و"سيكولوجيا الاستشراق عند هشام جعيط"، و"التاريخانية عند عبدالله العروي"، و"الإسلاميات التطبيقية كبديل للإسلاميات الكلاسيكية عند محمد أركون"، ونقد سلطة المعرفة عند إدوارد سعيد. وفيما يخص الاستشراق والعمارة الإسلامية، يذكر الكتاب أن علاقة الشرق بالغرب ضمن مجال الفن والعمارة تعود إلى جذور تاريخية عميقة، وقد تمثلت صورة الاستشراق في الفن الإسلامي خلال مرحلتها المبكرة، في محاكات القوالب الفنية الإسلامية من أشكال الأرابسك والرقش، وقد تجلى ذلك في تطعيم العمارة الرومانسية والقوطية في مدن فرنسا وإيطاليا وصقلية بعناصر من العمارة الإسلامية. وشهد عصر النهضة توجهاً بارزاً نحو دراسة العمارة الإسلامية التي كانت مفرداتها من أوائل النماذج غير الغربية التي تمت دراستها. ومن أمثلة الوعي الغربي بعمارة الشرق في النصف الأول من القرن الثامن عشر، يذكر المؤلف دراسة للمعماري "جون برنادر فيشر" في كتاب "التاريخ العام" الصادر عام 1721، والذي تضمن العمارة التركية والعربية والفارسية. بعد ذلك توجه العديد من الفنانين الغربيين إلى الشرق في القرن الثامن عشر، وكانت لهم مساهماتهم في اكتشاف التقاليد المعمارية للعالم الإسلامي. لكن تبقى حملة نابليون أهم جهد لتوثيق الصروح المعمارية في العالم الإسلامي، وذلك ضمن كتاب "وصف مصر" الذي تضمن رسومات للمباني والآثار المختلفة، أهمها الرسومات الخاصة بمدرسة السلطان حسن المملوكية، والتي كانت تشتمل على مساقط ومقاطع وواجهات، إضافة إلى مناظير. وتوجه الغرب نحو دراسة عمارة الشرق بشكل واسع منذ مطلع القرن التاسع عشر. لكن انتقادات وجهت لتلك الدراسات، من ذلك أنها غير دقيقة، وأن المؤلفين لم يستطيعوا تفسير المباني وما حملته من نقوشات، ولم يعرِّفوا بالخلفية التاريخية لكثير منها. لكن بعد منتصف القرن التاسع عشر تكونت دراسات ومنشورات حول عمارة الأقاليم الإسلامية، وتم اكتشاف التقاليد المعمارية بهدف تصنيف الناتج المعماري الإسلامي خلال فترات تاريخية متفاوتة وفي أمصار مختلفة. ويتناول الكتاب قضية الاستشراق والمدينة الإسلامية، موضحاً أن المستشرقين كوّنوا مفهومهم حول هذه المدينة عبر نصوص غربية اعتمدت على نماذج انتقائية من المدن الإسلامية، كما اعتمد أولئك المستشرقون على بعضهم البعض في طريقة الإسناد والعزو. لذلك فقد كان الطرح الاستشراقي حول المدينة الإسلامية في بعده الأكاديمي، يعكس منهجيةً تقوم على التوثيق الإحالي من جهة وعلى التعميمات الكبيرة من جهة أخرى. ويتناول الكتاب المرجعية التاريخية في العمارة العربية المعاصرة، منتقلا نحو الجانب الآخر والمتعلق برؤية الذات العربية لهويتها من خلال نظرتها إلى التاريخ وموقفها منه. كما يتناول "قضايا وملامح جديدة في العمارة العربية"، ويتطرق لـ"الاستشراق في العمارة العربية المعاصرة"، منتهياً إلى أن ما طرحه الناتج الفكري الاستشراقي، بغض النظر عن مدى صحته ودقته، أصبح بمثابة إنشاء له قوة تمارس سلطة معرفية في عملية التمثيل المعماري، سواء في المعارض الدولية أو فيما يتعلق بالناتج المعماري الغربي في الشرق خلال فترة الاستعمار وما بعدها، حيث تم إسقاط المفاهيم الاستشراقية على الناتج العمراني العربي المعاصر. ورغم هذا التوضيح الأخير، يبقى ثمة التباس يصاحب قارئ الكتاب منذ صفحة العنوان وحتى الصفحة الأخيرة فيه؛ إذ من غير الواضح ما إذا كان هدف الكتاب دراسة الطريقة التي أثّر بها الاستشراق على العمارة العربية ووعيها بذاتها كفكر وكهوية، أم إبراز التأثير الذي أحدثته العمارة العربية في بناء الفكر الغربي الحديث وهويته؟! لكن مهما يكن فالكتاب لا يسد ثغرة في مجاله المعرفي داخل المكتبة العربية فحسب، بل يحقق إضافة نوعية؛ لما اتسم به من منهجية علمية عالية الانضباط، ولما ميز مصادره من أصالة وغزارة، فضلا عن الجهد الهائل الذي بذله المؤلف في تدعيم تحليلاته بالصور والوثائق والمخططات العمرانية القديمة والحديثة. محمد ولد المنى الكتاب: الاستشراق في العمارة العربية المؤلف: رائد أرناؤوط الناشر: دار المأمون تاريخ النشر: 2012