جاء غلاف العدد الأخير من مجلة "الإيكونومست" الصادر قبل أيام معبراً عن حالة مصر والمدى الذي بلغته أزمتها الداخلية بعد أكثر من 16 شهراً على تنحي رئيسها السابق "مبارك" وقبيل إعلان نتيجة أول انتخابات رئاسية تعددية وتنافسية في تاريخها. ويبدو هذا العنوان، وهو "مصر في خطر"، تعبيراً عن المأزق الأكبر الذي يواجه هذا البلد، وهو يتحول مما بدا كربيع تتفتح فيه الزهور إلى خريف تشتد فيه العواصف وتنذر بانفجار خطير. وقد حملت الصورة التي اختارتها "الإيكونومست" لغلافها المشار إليه دلالة موحية، وهي صورةٌ لأهرامات مصر الثلاثة المشهورة، وقد انفجر في أحدها بركان! غير أن ما نشرته المجلة عن حجم الخطر الذي أبرزته على غلافها يبدو أقل مما قد يحمله المستقبل القريب في مصر إذا لم تتحقق فيها مصالحة وطنية واسعة جدد الرئيس المنتخب الأمل فيها عندما ألقى خطابه الأول الأحد الماضي. فقد حصرت "الإيكونومست" الخطر الذي لفت انتباه محرريها في الصراع على السلطة بين الجنرالات (أي المجلس الأعلى للقوات المسلحة) والإسلاميين. كما أن إدراكهم لنوع هذا الخطر لا يتسم بدقة كافية لأنهم حصروه فيما اعتبروه تصميماً من "الجيش" على التحرك في الاتجاه المعاكس لمسيرة الحرية، أو على الأقل استخدام كوابح قوية ضدها وفق ما ورد في تقريرهم. غير أن هذا الصراع على السلطة ليس سوى جزء من مشهد أكثر تعقيداً، وقد يجوز اعتباره -في قراءة أخرى- النتيجة الراهنة لحالة صراع شامل سياسي واجتماعي، وليس فقط صراعاً على السلطة. فقد عجزت الأحزاب والقوى والنخب السياسية والاجتماعية عن بناء حد أدنى من التوافق الوطني على مدى أكثر من عام وربع العام، وأخفقت في التفاهم على خريطة طريق واضحة ومقومات أساسية للدولة والمجتمع، وأحبطت جهوداً متوالية بُذلت للوساطة بينها، خصوصاً بين تيارات الإسلام السياسي من ناحية والتيارات الليبرالية واليسارية وغيرها من القوى المدنية من ناحية أخرى. فلم يكتمل حوار بدأ، ولم يتواصل نقاش تم الشروع فيه، ولم يستمر عمل مشترك اتُفق عليه حتى بين أطراف تنتمي إلى معسكر واحد. فإلى جانب الهوة العميقة التي تفصل أحزاباً وقوى ونخباً بسبب تناقض مرجعياتها ومفاهيمها للدولة والمجتمع ونمط الحياة وصورة المستقبل، لا توجد ثقة كافية بين من ينتمون إلى المرجعية نفسها بتفسيرات مختلفة لها ومن يتفقون على مفاهيم عامة، لكنهم يختلفون على تفاصيلها. وهذا فضلاً عن الصراعات ذات الطابع الشخصي والتكالب على الزعامة والتزاحم على مواقع الصدارة وشيوع الاستعداد لتغليب المصالح الخاصة على المصلحة الوطنية العامة. وتحفل مواقع التواصل الاجتماعي بقصص وروايات لا حصر لها عن هذه الصراعات، وبتعليقات يتسم كثير منها بالطابع الفكاهي وخفة الدم، بحيث تبدو الساحة السياسية المصرية في صورة كاريكاتورية، لكنها ليست بعيدة كثيرة عن واقعها المؤلم. وربما تكون الأغنية المصورة التي أطلقها الفنان المعروف على الحجار، على موقع "يوتيوب" الخميس الماضي، أحدث تعبير فني عن حال مصر الآن وأحزابها ونخبها السياسية التي يظهر كل يوم ما يدل على أنها أصغر بكثير من حجم المسؤولية التي يفترض أن تحملها على عاتقها في لحظة خطر واضح. وتبدأ الأغنية، التي تعبر عن حال ثورة 25 يناير وتحمل اسم "ضحكة المساجين"، بلقطات من اليوم الذي أُطلق عليه جمعة الغضب (28 يناير 2011)، قبل أن توجه نقداً صريحاً بل موجعاً إلى القوى والأحزاب الأساسية من زاوية أن كلاً منها يلجأ إلى نوع مختلف من الألاعيب والحيل سعياً إلى تحقيق مكاسب على حساب المصلحة الوطنية العامة، وترفض التقدم نحو مصالحة لا يمكن مواجهة الخطر الذي يهدد البلاد في غيابها. لكن أحد بواعث اشتداد الخطر الآن هو أن قسماً متزايداً من الشعب المصري، الذي يرى ويعرف ويصبر، أصابه إحباط قد يدفعه لأن يلوذ بالصبر إلى أجل غير مسمى تاركاً الساحة للقوى المنظَّمة التي تستطيع الحشد أو تملك القوة. ومن هنا أهمية الإسراع بتنزيل محتوى الخطاب الذي وجهه الرئيس المنتخب محمد مرسى بعد ساعات على إعلان نتائج الانتخابات، وحمل لهجة توافقية ورسائل إيجابية تفتح باب الأمل في التحرك نحو بناء المصالحة الوطنية الغائبة. فهذه المصالحة لا تتحقق عبر الخطاب السياسي فقط بل من خلال عمل لتحقيق شراكة وطنية تكون بداية لهذه المصالحة ويشعر الجميع بجديتها من مسلمين ومسيحيين، أثرياء وفقراء، إسلاميين وليبراليين ويساريين وقوميين وآخرين لا انتماء سياسي أو مرجعية أيديولوجية لهم. فهذه هي البداية الحقيقية لمواجهة الخطر الذي يهدد مصر الآن. فهذا خطر أبعد من الصراع على السلطة بين "العسكر" والإسلاميين، وأكثر ارتباطاً بالانقسام الحاد المتعدد الجوانب الذي يهدد بصراعات لا يمكن أن يتحملها بلد مثقل بمشاكل اجتماعية لا حصر لها ووضع اقتصادي يقترب من الإفلاس. ولا سبيل إلى مواجهة هذا الخطر إلا عبر مصالحة وطنية واسعة النطاق لا تقتصر على العلاقة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتيارات الإسلام السياسي عموماً، وجماعة "الإخوان المسلمين" خصوصاً، بل تشمل مختلف الأحزاب والقوى السياسية والفئات الاجتماعية. فثمة مصالحة ضرورية على صعيد العلاقات المدنية العسكرية بين الأحزاب والقوى السياسية عموماً والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأخرى لا تقل أهمية بين قوى الإسلام السياسي والأحزاب والتيارات الليبرالية واليسارية والقومية. وهناك مصالحات أخرى بالغة الأهمية، مثل المصالحة بين الشرطة والمجتمع لرأب الصدع الذي حدث في العلاقة بينهما وأدى إلى اضطراب أمني لا يمكن أن تقوم لبلد قائمة في وجوده أو بدون معالجته. ولأن الاقتصاد المصري في حال انهيار، تكتسب المصالحة بين المستثمرين أو رجال المال والأعمال والمجتمع أولوية متقدمة بدورها، لأن قصص الفساد الأسطوري التي كُشف النقاب عنها في الأشهر الماضية أفقدت الناس الثقة في الفئة الاجتماعية التي يتوقف عليها تحقيق النمو وزيادة الدخل القومي وخلق فرص عمل وبالتالي حل مشاكل البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي وغيرها. وليست هذه إلا أهم جوانب المصالحة الوطنية الواسعة التي لا بديل عنها لتجنب خطر هائل تتجمع سحبه في سماء مصر الآن وينذر بأهوال تفوق طاقة شعبها الذي لم يعد قادراً على تحمل المزيد من الأعباء والمحن.