نحو حرب "جديدة" على الإرهاب
مع تدمير أضرحة الأولياء في تمبكتو المالية، تذكّر العالم تدمير تماثيل بوذا في باميان الأفغانية. لابد أن حركة "طالبان" احتفلت بإنجاز وليدتها حركة "أنصار الدين"، إحدى مخرجات اندماجات تيارات "القاعدة" وعصاباتها. كلاهما أعطت وتعطي بالعبث الأهوج نمطاً من "اللاحضارة" في الوقت الذي تمسّ الحاجة إلى إعلاء مفاهيم التعارف والتفاهم والتسامح بين مختلف الحضارات. وقد أظهرت الصورة المتلفزة للمقاتلين في شمال مالي مشهداً لما يمكن أن تكون عليه بربرية هذا العصر. ولا عزاء لمنظمة "اليونيسكو" التي تعتبر تمبكتو من التراث العالمي الواجب الحفاظ عليه. أما مجلس الأمن، الذي يتدارس فكرة التدخل العسكري الدولي، فمن المؤكد أنه تأخر جداً على جاري عادته.
وأما حلف الأطلسي، الذي "حرر" ليبيا من نظامها السابق، فلم يفطن أبداً إلى مضاعفات حملته وانعكاساتها على المنطقة. وهذا، فإن "تحرير" أفغانستان ثم العراق ساعد "القاعدة" على انتشار جغرافي لم تكن تتصوره، وها هو "تحرير" ليبيا يجترح دينامية توحيد فروع "القاعدة في المغرب الإسلامي" مع الجماعات المسيطرة حالياً على شمال مالي.
لا شك أن بؤرة الاضطراب والإرهاب في تلك المنطقة ستكون حالاً أفغانية أو صومالية بامتياز. ورغم أنها نضجت على مهل طوال الأعوام الأخيرة، على وقع عمليات احتجاز رهائن ومقايضتهم بفدى بلغت بمجملها بضع عشرات الملايين من الدولارات، إلا أن أحداً لم يتنبه إلى ترسانة السلاح الليبي التي فُتحت بلا حسيب أو رقيب فكان أن بلغ تزوّد "القاعديين" كافة بما يجعل منهم دولة مدججة حتى الأسنان.
والآن يقال حسناً فلنحصرهم في هذا المربع الجغرافي الصحراوي، لكنهم زعزعوا دولة هي مالي، وهناك ست دول متاخمة باتت قلقة وتستشعر الخطر الذي لا يزال في بداياته. وكان قيل في تسعينيات القرن الماضي إن الأفضل إبقاؤهم داخل أفغانستان وإذا بهم يظهرون في أجواء الولايات المتحدة. ثم قيل إن من أهداف غزو العراق إجهاض نشوء حال "قاعدية" وإذا بالتنظيم الإرهابي ينتقل ليصبح رأس الحربة في مقارعة الاحتلال والنظام الجديد الذي ولد في كنفه. وطبعاً قيل لا بأس بحصرهم داخل حدود الصومال فقرضوا خليج عدن وما بعده. وكان هناك الرئيس اليمني السابق الذي اعتقد أنه يستطيع أن يبقيهم في معازل جبلية ليستخدمهم في ألاعيب السياسة داخلياً وخارجياً، وإذا بهم يستولون على إحدى محافظات اليمن ويضربون في العاصمة صنعاء وتطلب الأمر تجريد حملة عسكرية لطردهم ومطاردتهم في معركة لا تبدو لها نهاية.
وتبقى الساحة السورية مفتوحة لكل الاحتمالات "القاعدية"، إذ أشير إلى هذا التنظيم ومسؤوليته عن بعض التفجيرات، من دون أن يتضح فعلاً إذا كان بدأ نشاطه خصوصاً أنه لم يبد أي إشارة، ثم إنه لا قنوات اتصال بينه وبين مجتمع الانتفاضة، إذ أن كل تحركاته السابقة على الأراضي السورية تمّت بمعرفة الأجهزة وتسهيلات منها. هذا لا ينفي أنه يمكن أن يكون موجوداً لرصد إمكانات العمل لاحقاً، تحديداً إذا حصل تدخل عسكري أجنبي فيتخذه ذريعة وغطاء لتبرير ما لا تزال تسمى "جهاديته" رغم ما ألحقته جرائمه من انتهاكات لمفهوم "الجهاد". وإذا كان هذا التنظيم يتصرف بدافع التعطش للدماء فحسب، فإنه لن يستطيع بأي حال من أن ينافس ارتكابات النظام السوري نفسه.
مع الحالات التي فرّخت في العديد من المناطق الليبية وتواصلها بشكل أو بآخر مع شمالي مالي، أدركت الدول الغربية أن إطاحة نظام كان لابد أن يسقط ويزول قد تعني الوقوع في وضع لا بد من إنهائه عاجلاً. ويبدو الأمر الآن كأن الجميع يعرف أين ستحدث الحرب المقبلة، أو كأن ثمة حاجة إلى حرب جديدة على الإرهاب، رغم التقييم المشوّش للحرب المستمرة التي أعلن الأميركيون نهايتها. حاولت دول المنطقة التنسيق فيما بينها، لكن الاجتماعات المتعاقبة لم تفعل سوى تعميق مشاعر عدم الثقة فيما بينها. فبعيداً عن الإعلام تتبادل هذه الدول الاتهامات وتشير إلى تورط أجهزة رسمية في توفير تسهيلات للإرهابيين، بل إن بعضها يتحدث بالتفصيل عن عمليات "منسّقة" ألغيت في اللحظات الأخيرة بسبب انكشافها.
كانت المناخات التي أعقبت ثورات "الربيع العربي" وانتفاضاته أتاحت الحكم بأن التحولات الجارية قطعت العشب تحت أقدام "القاعدة" وأخواتها. فالبيئة السياسية المفتوحة على إقامة أنظمة ديمقراطية تحترم الحريات وحقوق الإنسان لا يمكن أن تحتضن الإرهابيين أو تصنع المزيد منهم. هذا ما توصل إليه أيضاً رئيس جهاز مكافحة التجسس في الاستخبارات البريطانية، إلا أن تقريره الصادر قبل أيام نبّه إلى أن "الإرهاب القاعدي" وجد المسارب للتغلغل في الأوضاع الجديدة، إما للذوبان في القوالب التي تتخلّق أو بحثاً عن "قضية" جديدة. كانت هناك مبالغة في ذلك التقرير، ربما من قبيل التحوّط وإدامة اليقظة، لكن ثمة ظواهر تستحق المراقبة.