لماذا الحملات الظالمة على القضاء؟!
من الظواهر السلبية المؤسفة التي أفرزتها مرحلة ثورات "الربيع العربي"، ظاهرة نزول الجماهير إلى الشارع للاحتجاج على أحكام القضاء التي لا تنسجم وميولها وأمزجتها السياسية، وتستغل قوى سياسية المزاج العام للجماهير من أجل حشدها وتعبئتها وتحريضها للتظاهر والتنديد بأحكام القضاء والتشكيك فيها بل ومحاصرة حصون العدالة والطعن في نزاهة القضاة واتهامهم بشتى التهم الباطلة، يسيئون إلى القضاء ويتطاولون على القضاة باسم الشرعية الثورية ويقولون: الثورة أسقطت كل المقدسات والثوابت السابقة، ولا عصمة لأحكام القضاء في عصر "الربيع العربي"، وأن المرحلة الثورية تتطلب قضاءً ثورياً ولا تصلح فيها قواعد القانون العادية بل يجب تطبيق أحكام استثنائية.
جماعة "الإخوان" والقوى الثورية في مصر رفضت الأحكام الصادرة بحق الرئيس السابق "مبارك" ونجليه ووزير داخليته وبعض قيادات الشرطة في عهده، ونزلت إلى الميدان منددة بالأحكام ومعرّضة بالقاضي ومشككة في نزاهته، ورفعوا شعار "العدالة" هاتفين: الشعب يريد تطهير القضاء! والمؤسف أن رموزاً قانونية وسياسية شاركت في هذه الحملة الظالمة والمسيئة للقضاء تملقاً للجماهير وتزلفاً، وقد اضطر القاضي الذي حكم على مبارك بالسجن المؤبد، لترك بلاده واللجوء إلى فرنسا طلباً للأمان.
إن تلك النخب الثورية وهذه الجماهير المحتشدة في الميادين لا يحركها إلا منطق الثأر والانتقام وتصفية الحسابات، لا يريدون حكم العدالة والقانون، بل يريدون حكم الشارع الثائر على الأوضاع والمؤسسات، يريدون هدم كل المؤسسات بما فيها القضاء، بحجة أن النظام القديم متغلغل داخل مؤسسة القضاء أيضاً، يريدون قضاءً مطواعاً لأهواء الثوار لا خاضعاً للدستور والقانون.
وتكرر الهجوم الشرس على القضاء المصري بعد أن أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها بحل البرلمان المصري الذي يسيطر عليه "الإخوان" والسلف، وذلك لعدم دستورية بعض النصوص القانونية المتعلقة بانتخابات مجلس الشعب، كما قررت المحكمة عدم دستورية قانون العزل السياسي الذي أصدره البرلمان بهدف حرمان "شفيق" من الترشح الرئاسي، فقامت دنيا جماعة "الإخوان" والقوى الثورية ولم تقعد؛ هاجموا المحكمة الدستورية واتهموها بالتآمر لتصفية الثورة، ورفضوا الحكم ونزلوا إلى الشارع وأساءوا إلى القضاء، بل إن إسلامياً معتدلاً مثل عبدالمنعم أبوالفتوح وصف حكم الدستورية بأنه انقلاب كامل، وحتى في الدوحة قام أحد الخطباء ومن على منبر الجمعة، بتحريض الناس وقال: إن قرار المحكمة الدستورية مؤامرة!
ويبدو أن العدوى المصرية غزت الساحة الكويتية، إذ تجمّع آلاف الكويتيين في "ساحة الإرادة" معبرين عن رفضهم لحكم المحكمة الدستورية بحل مجلس أمة 2012 وعودة مجلس 2009 بقوة الدستور، وذلك بسبب خطأ إجرائي شاب مرسومي حل المجلس السابق وانتخابات المجلس الحالي الذي تسيطر عليه أغلبية إسلامية قبلية معارضة. وقد أوضحت المحكمة في حيثياتها أن الحكومة التي قامت بتنفيذ المرسومين، غير ذات صفة، وما أن صدر الحكم حتى اجتمعت الأغلبية المعارضة لتندد به ولتقول إنه مسيّس وإن هناك مؤامرة، ودعت الجماهير للنزول إلى الشارع للاحتجاج على الحكم، ثم صعّدت المعارضة في بيانها الثاني لتتجاوز كل الخطوط الحمراء ولتتدخل في عمل القضاء ولتنسف مبدأ الفصل بين السلطات، فاعتبرت نفسها حكماً يعلو القضاء الدستوري وقررت بكل جرأة: أن حكم المحكمة الدستورية منعدم وأن تشكيلها باطل وأن مجلس 2012 قائم ومستمر!
ومثلما احتكمت القوى الثورية المصرية إلى الجماهير ودعتها للنزول إلى الشارع، كذلك فعلت قوى المعارضة الكويتية حين دعت الجماهير للنزول إلى الشارع بحجة أن إرادة الأمة فوق كل السلطات، وما دامت الأمة قد اختارتهم في مجلس 2012 فمجلسهم قائم وهم أعضاء فيه تحت إمرة رئيس المجلس!
والتساؤلات المطروحة: لماذا التشكيك في أحكام القضاء؟ ولماذا التطاول على القضاة؟ ولماذا تحريض الجماهير للتنديد بأحكام القضاء؟
إن دوافع الأغلبية البرلمانية في مصر مختلفة عن دوافع الأغلبية الكويتية، الدوافع في مصر انتقامية وثأرية، أما الدوافع في الكويت فهي الوصول إلى السلطة، حيث تريد المعارضة الكويتية أن تكون أغلبية الحكومة القادمة من صفوفها، وقد حصحص الحق في تصريح أحد رموزهم عندما طالب بحكومة من الغالبية وإلا فلن تتهاون مع الحكومة المقبلة.
إن أخطر ما يصاب به أي مجتمع هو عدم احترام أحكام القضاء والتشكيك فيها ونشر المقولات الكاذبة بهدف زعزعة مكانة القضاء وإضعاف الثقة في القضاة، والويل لأمة لا تحترم قضاءها وتسمح للشارع أن يقيّم عمل القضاء.
إن خروج الجماهير للاحتجاج على الأحكام القضائية، أمر غير لائق بالمجتمعات المتحضرة، إن العدوان على القضاء عدوان على كل القيم والثوابت والمبادئ المستقرة في الضمائر والوجدان من احترام القضاء وحفظ هيبة القضاة وصيانة مكانتهم. لقد استقرت التقاليد القانونية في البلاد المتحضرة على منع التعليق على الأحكام وعلى تصرفات القضاة مدحاً أو قدحاً، كما أنه لا يجوز لأحد أن يتعرض لدوافع القاضي أو عقيدته السياسية أو منهجه الفكري، فضلاً عن أن يصفه بأوصاف تعتبر تعريضاً بالقضاء أو حطاً من مكانته. هناك طرق قانونية للطعن في الأحكام، وأمام المحكمة المختصة، والطعن يوجه إلى الحكم نفسه لا إلى القاضي. إن أي مساس بهيبة القضاء أو استغلاله أو حياده، هو هدم لصرح هذه السلطة الحامية للحريات والحصن المنيع للعدل والملاذ الآمن للضعيف والمضطهد والمظلوم والمنارة الهادية عندما تشتد الظلمات وتضطرب الأهواء وتنتشر الفتن.