بعد عقود من الزمن تمكنت جماعة "الإخوان المسلمين" من الوصول إلى رئاسة الجمهورية في مصر. أصبح محمد مرسي أول رئيس مدني في مصر. نجح على رأس حزب "الحرية والعدالة" في الانتخابات الأولى التي تأتي فيها النتائج لتحمل نوعاً من التوازن السياسي. لسنا أمام نجاح رئيس بنسبة 99.9 بالمئة أو أقل بقليل جداً. كانت معركة حقيقية وتمت على مراحل، وانتظر الناس في الداخل والخارج النتائج وأعصابهم مشدودة. صحيح أن النسبة التي حصل عليها مرسي لم تكن كبيرة جداً لناحية الفرق بينه وبين خصمه أحمد شفيق. وصحيح أن كثيرين صوتوا له من خارج "الإخوان" ليس دعماً أو تأييداً للجماعة، بل كان في الأساس ضد شفيق، ضد ما يعتبره البعض رمز النظام السابق. أكد المصريون أنهم لا يريدون العودة إلى الوراء.لا عودة واضحة ولا عودة مقنعة. يريدون نتيجة مقنعة للتغيير الذي جرى في بلادهم، وهو تغيير جدّي جوهري. محمد مرسي بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، تفاهم مع المجلس العسكري، تجاوز مشكلة أداء القسم أمام المحكمة الدستورية فقد أقسم أمام الشعب في ميدان التحرير، وأقسم لاحقاً أمام المحكمة وقال كلاماً ممتازاً. بدأ ممارسة مهامه، وكان الانتقال هادئاً سلمياً في القاهرة، وبدأت مسيرة جديدة آمل أن تنتهي بالنجاح لناحية تكريس الأمن والاستقرار واستعادة دور مصر الريادي في المنطقة. الآن بدأت مسيرة التحديات الكبرى، بدأ الامتحان الأكبر لمحمد مرسي وإخوانه، مشاكل مصر كثيرة، والتحديات كبيرة، والوضع الداخلي صعب، سياسياً واجتماعياً ومالياً واقتصادياً وإدارياً. ومشاكل المحيط لا تحصى ولا تعدّ وخطيرة هي على كل المنطقة. قال مرسي نحن انتقلنا إلى مرحلة جديدة. مرحلة نريد فيها بناء دولة حديثة مدنية متطورة. وأكد دور القوى المسلحة. والتزام حكمه بالاتفاقات الدولية والمعاهدات المبرمة مع الدول. ومنها بالتأكيد الاتفاق مع إسرائيل. لا شك أننا أمام مرحلة جديدة، رئيس من "الإخوان"، رئيس لمصر يلتزم اتفاقاً مع العدو التاريخي إسرائيل. ثمة أولويات اليوم في السياسة، تفرضها الظروف والوقائع والحقائق. أولويات سياسية داخلية اقتصادية واجتماعية. عندما تحرك الشعب المصري وأطلق ثورته كان يريد الحرية والديموقراطية ولقمة العيش والكرامة وفرص العمل. لم يكن ثمة تظاهرات ضد الاتفاق مع إسرائيل أو رفضاً للسياسة الأميركية الداعمة لها. وهذا لا يعني بالتأكيد أن الشعب المصري تخلى عن وطنيته أو قوميته، وعن صراعه مع إسرائيل. لكن يعني حقيقة أن الجوع والفقر والحرمان والظلم والفساد والقهر واستغلال مقدرات الدولة من قبل حفنة من الرجال، هي العوامل التي فرضت نفسها على الناس. ولذلك فإن التحدي الأول هو في حفظ حقوق الناس كل الناس في مصر، حفظ حقوقهم في التعبير عن آرائهم وممارسة حياتهم اليومية وشعائرهم وطقوسهم ومعتقداتهم السياسية والدينية بكل حرية وديموقراطية. لأن هذه الحرية هي التي جاءت بمرسي إلى رئاسة الدولة وعليه أن يحميها ويحمي حق المواطنين في ممارستها لتكريس تداول حقيقي للسلطة. هي تجربة جديدة جديرة بكل الرعاية والمتابعة، والنجاح فيها هو بداية الانتقال الحقيقي إلى مرحلة جديدة في المنطقة. إلى واقع عربي جديد. ودور عربي جديد يلعبه الجيل الجديد ويؤسس لمستقبل واعد. ويبدو أن المجتمع المصري مهيأ لهذا الدور. ولا يظلمّن أحد الإدارة الجديدة في مطالبتها بحسم كل القضايا والمشاكل الاجتماعية المتفاقمة في مصر في وقت سريع فالجوع والحاجات اليومية بحدودها الدنيا للناس والفساد وترهل مؤسسات الدولة مسائل تحتاج إلى وقت للمعالجة. لكن المهم هو أن تكون لدى القيادة الجديدة الرؤيا الواضحة التي على أساسها يمكن الشروع في العملية التغييرية وطمأنة الناس. هذه هي المسؤولية الوطنية الداخلية طبعاً يجب أن يحظى هذا الأمر بالمساعدة العربية. نعم، العرب قادرون على المساعدة. دعماً واستثماراً وتقديم مساعدات مالية وعينية، لأن ثمة مشكلة أساسية لا حلّ سريعاً لها وهي مشكلة الازدياد السكاني وما تخلفه من أزمات. العرب مدعوون إلى مساعدة مصر. ثم الغرب الذي ينادي بالديموقراطية مسؤول هو الآخر عن حماية نتائج الديموقراطية واحترامها وتشجيعها. لا تستطيع أن تكون مع الديموقراطية وضد نتائجها. لا يمكن أن تدعو الناس إلى التعبير عن رأيهم ثم ترفض هذا الرأي وتأتي لمعاقبتهم عليه. لذلك الكل اليوم أمام الامتحان. المهم أن يثبت المصريون نجاحهم فيه - في بداية التحول والتجربة. والاتفاق مع إسرائيل ليس نهاية المطاف ولا يكبّل مصر كما يعتقد البعض، ثمة دول لا تقيم علاقات مع إسرائيل، وهي كبيرة وقوية وقادرة لكنها مكبّلة. المهم هو الإرادة. طبعاً ستحاول إسرائيل ممارسة الضغوط في اتجاهات عديدة واللعب على كل التناقضات والخلافات. وليس من مصلحتها أن ترى مصر تعود إلى لعب دور قيادي وأساسي وأن تعود إلى النهوض بمجتمعها وتحتل موقعاً متقدماً في المنطقة، لاسيما وأن إسرائيل ترصد باهتمام العلاقة بين "حماس" والقوى الجديدة في مصر. والموضوع الفلسطيني بالنسبة إليها هو الذي يتقدم على كل المواضيع الأخرى ولا تتساهل فيه .لكن هذا ليس قدراً إسرائيلياً، وبقدر ما يتحصن الوضع الداخلي المصري. ويتحسن الأداء السياسي والإداري والمؤسساتي، وبقدر ما يحتضن العرب مصر، بقدر ما تتمكن القيادة الجديدة من فرض نفسها وموقفها والقيام بواجباتها. وفي هذا السياق، فإن عملية التغيير التي تشهدها المنطقة والمستمرة بأشكال مختلفة، تؤكد في محطة جديدة لها، في مصر، أن وصول الإسلاميين إلى السلطة كنتيجة لعملية ديموقراطية حرة ليس أمراً خطيراً ومدعاة إلى تفجير الأوضاع أو الهيمنة وإلغاء الآخر. الانتخابات المصرية الأخيرة لم تلغ الآخر، أعطته حقه وموقعه ودوره وتأثيره، ونسبة المشاركة فيها كانت كبيرة جداً. وبالتالي فإن أي تغيير في أي دولة يقرره الناس. هذا صحيح. لكن الأنظمة والقوانين التي ترعى العملية الانتخابية مهمة، يعني في مصر أقر قانون للانتخاب لم يكن مسرحية أو كذبة أو مناورة أو ممراً لإعادة إنتاج السلطة ذاتها والقوات الحليفة من ذاتها. كانت انتخابات حقيقية، سياسة وإعلاماً وإعلاناً، وأدخلت إليها أنماط حضارية جديدة ومارسها الشعب المصري. وهذا يعني أن زمن إقرار القوانين على قياس هذا أو ذاك في الدول العربية لم يعد مقبولاً. وأن التخويف من وصول قوى إسلامية إلى السلطة لم يعد مقنعاً، لكي يبرر البعض استمرار حروبهم على شعوبهم وتدمير دولهم ومؤسساتهم. أتركوا التجربة الديموقراطية تأخذ مداها. وليحتكم الجميع إلى نتائجها آخذين بعين الاعتبار خصوصيات دولنا ومجتمعاتنا، ومبّعدين خيارات العسكرة والفتن والحرب كما يحصل في سوريا اليوم. وتبقى إشارة مهمة وهي المتعلقة بدور المجلس العسكري في مصر، بغض النظر عن الخلفيات والإشارات والحسابات. يسجّل للمجلس موقف تاريخي ساهم في إنقاذ مصر التي يعاد إنتاج السلطة فيها. لقد التزم المجلس بكل وعوده وهذا أمر مهم لمصلحة مصر وكلام الرئيس مرسي عن المؤسسة العسكرية ودورها في حماية حدود البلاد وأمنها واستقرارها وحرصه عليها وعلى تعزيز وضعها كان مهماً جداً. إنها حكمة القيادة، التي تحتاج إليها، آمل أن تبقى هي الأساس في كل التصرفات في بداية المرحلة الجديدة المهمة في مصر، والتي عليها تتوقف نتائج أحداث كثيرة حول مصر وليس في داخلها فقط. مبروك لمصر.