في زمن الحرب الباردة كانت واشنطن تطارد موسكو في كل مكان بحثاً لها عن موطئ قدم على حساب الأخيرة، فيما كانت بكين، وللأهداف ذاتها، تطارد واشنطن من جهة، وتطارد موسكو من جهة أخرى. ومن الساحات التي احتدم فيها التنافس وقتذاك ما بين هذه القوى الثلاث الساحة الأفريقية الفتية، حيث حاول الصينيون إقناع قادة دولها المستقلة حديثاً بعدم الوثوق بالأميركيين الإمبرياليين، وبفك روابطهم مع الدب الروسي لصالح التنين الصيني، قائلين إن الروس لا يُؤتمن جانبهم لأنهم كانوا يوماً ما غزاة ومستعمرين، أما الصين فلا خوف منها لأنها بلا ماض استعماري. ويتذكر من عاصر تلك الحقبة الجولة التاريخية الطويلة التي قام بها رئيس وزراء الصين وقتذاك "شو إن لاي" في طول القارة السمراء وعرضها من أجل الغرض المذكور. تلك الجولة التي قادته في نهاية المطاف إلى مصر التي كانت حينئذ زعيمة أفريقيا دون منازع بسبب سياسات عبدالناصر الداعمة لحركات التحرر والاستقلال في القارة، لكن عبدالناصر رد "شو إن لاي" خائباً حينما لم يكترث بمبررات الأخير حول فك تحالفاته مع السوفييت، الأمر الذي دفع الصينيين بالمقابل إلى عدم التعويل كثيراً على ما عــُرف وقتذاك بـ " منظمة الدول الأفروآسيوية" بزعامة مصر الناصرية. واليوم، وبعد أن انتهت الحرب الباردة، وصار الاتحاد السوفييتي شيئاً من الماضي، وبرزت الصين على الساحة الدولية كقطب اقتصادي وعسكري وصناعي وعلمي يمتلك ما يمكـّنه من منافسة القوى العالمية الأخرى على أفريقيا، نجد أن الأميركيين هم من صاروا يطاردون الصينيين في القارة السمراء. فمن بعد الإعلان عن استراتيجيتها الجديدة المتمحورة حول آسيا والمتضمنة نقل أساطيلها وقواعدها الحربية باتجاه المحيط الهادي بحلول عام 2020، ها هي واشنطن تحت إدارة باراك أوباما المتخبطة تعلن عن استراتيجية جديدة تقوم على إيلاء اهتمام أكبر بالقارة الأفريقية التي أهملتها طويلًا أملاً في نسيان ما حل بجنودها من فضائع في الصومال في عهد الرئيس جورج بوش الأب. وبطبيعة الحال فإن المراقب لا يحتاج إلى عناء كبير ليكتشف أن العامل المشترك ما بين الاستراتيجيتين الأميركيتين هو مناكفة الصين ومطاردتها والحيلولة دون تنامي نفوذها في القارتين. في مقالات سابقة عديدة سلّطنا الضوء على تحركات الصينيين في أفريقيا وقلنا إنها بلغت درجة من النضوج والنجاح جعلت دولة مثل زيمبابوي تقرر استخدام العملة الصينية (اليوان) بدلاً من عملتها المحلية في مبادلاتها التجارية. كما قلنا إن دوافع الصينيين للتنافس على إيجاد موطئ قدم صلب لهم في القارة تنبع من حاجتهم الماسة والمطردة إلى النفط والغاز والمعادن، وهي سلع متوافرة في العديد من الدول الأفريقية أو تحتاج لمن ينقب عنها ويستخرجها، إضافة إلى حاجتهم إلى السوق الأفريقية لترويج منتجاتهم الرخيصة من تلك التي تلائم أسعارها القدرات الشرائية للمواطن الأفريقي. وإذا كانت العقيدة السياسية الصينية الخاصة بأفريقيا تقوم على استغلال فقر القارة، وتخلف بنيتها التحتية، وانتشار الأوبئة والأمية في مجتمعاتها كسبيل للتقرب من شعوبها وحكوماتها عبر تقديم القروض والمعونات والهبات وإطلاق المشاريع التنموية، فإن العقيدة السياسية الأميركية تقوم على استغلال عوامل أخرى للنفاذ إلى أفريقيا. صحيح أنها انتهجت نفس الأسلوب الصيني في فترات سابقة، لكن الصحيح أيضاً أنها تنتهج الآن نهجاً يقوم على استغلال الفساد الضارب أطنابه في المجتمع ومؤسسات الدولة، واستغلال ديكتاتورية وقمعية بعض الأنظمة الأفريقية وما يتولد عن هذا الفساد والقمع من شكوى دائمة عند المواطن الأفريقي حول انتهاكات حقوق الإنسان وغياب العدالة وانعدام الشفافية وانتشار المحسوبية، كوسيلة للتدخل وتوطيد النفوذ. أما الأداة التي تستخدمها واشنطن اليوم فلم تعد المعونات والقروض كما في الحالة الصينية، وإنما منظمات المجتمع المدني وشبكات حقوق الإنسان الخارجية والداخلية التي يتم تسليطها على المجتمعات الأفريقية من أجل إحداث تغيير سياسي يصب في صالح السياسات الكونية الأميركية. ومؤخراً طرأ عامل جديد، ربما كان وراء سرعة الأميركيين لإيلاء اهتمام أكبر بأفريقيا. هذا العامل تمثل في ازدياد نفوذ وتوسع نشاط تنظيم "القاعدة" والموالين لها من الجماعات الإسلامية المتشددة في القارة السمراء ابتداء من مالي وموريتانيا وانتهاء بالصومال وكينيا. من هذه الجماعات، جماعة "بوكو حرام" العاملة في نيجيريا، كبرى الدول الأفريقية سكاناً، وأغناها بالنفط، وأكثرها فساداً. وهذا العامل لئن كان يؤرق الصينيين أيضاً، كونهم قاسوا من تشدد بعض الجماعات المرتبطة بفكر "القاعدة" المتسربة من أفغانستان إلى إقليم تركستان الشرقية، وإلى بعض جمهوريات آسيا الوسطى المجاورة لبلادهم، فإنه لم يعد يحتل ركناً أساسياً في استراتيجياتهم الخاصة بأفريقيا، وذلك على خلاف الأميركيين الذين يرون فيه خطراً داهماً يجب مواجهته بالآلة العسكرية، وعلى رأسها الطائرات الموجهة دون طيار. إضافة إلى العامل السابق، ظهر عامل آخر استأثر باهتمام صناع القرار في البيت الأبيض، ألا وهو تمدد النفوذ الإيراني في القارة السمراء بموازاة تمدد النفوذ الصيني. فإذا ما استبعدنا ما يتردد حول وجود تفاهمات أميركية- إيرانية سرية، فإن الزيارات الرسمية على أعلى المستويات ما بين قادة طهران وبعض نظرائهم الأفارقة وما صاحبها من اتفاقيات ظاهرها اقتصادي وباطنها عسكري إيديولوجي ربما أقلقت مضاجع الإدارة الأوبامية وجعلتها تعي مخاطر التمدد الإيراني في قلب أفريقيا وجنوبها وشرقها وغربها وشمالها العربي. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى التعاون القائم ما بين طهران ونظام الرئيس البشير في الخرطوم، ومحاولات طهران تجديد روابطها مع مقديشو والتي تعود إلى عهد الرئيس الراحل "عمر عيديد"، والزيارة التي قام بها في مايو الماضي إلى كينيا وتنزانيا نائب الرئيس الإيراني "محمد رضا رحيمي"، ناهيك عن التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية الإيراني "علي أكبر صالحي" في حفل أقامته السفارة الجزائرية في طهران مؤخراً بمناسبة يوم أفريقيا الذي يصادف ذكرى قيام منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1963، والتي حذر فيها الوزير الدول الأفريقية من القوى الأجنبية الطامعة في خيراتها، داعياً إياها إلى اليقظة والتوحد ووضع يدها في يد إيران من أجل إقامة قوة عالمية جديدة، ومعترفاً بوجود فرق علمية وفنية إيرانية تعمل في أفريقيا السمراء لتقديم المساعدات إلى شعوبها وحكوماتها، في إطار وحدة الهدف والمصير. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين elmadani@batelco.com.bh