ساد مفهوم الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة والاتحاد السوفييتي وحلفائه الشيوعيين من جهة أخرى. وكانت تلك الحرب صراعاً استراتيجياً وعقائدياً، استخدمت فيه أوراق عديدة، ولم تقع حرب عالمية خلاله لفداحة الخسائر التي تنجم عنها، لكن هذا لم يمنع حدوث منازلات وحروب بالوكالة، وحتى حروب مدمرة مثل الحرب الكورية وحرب فيتنام وأزمة الصواريخ الكوبية. الحرب الباردة مرهقة وطويلة الأمد ومكلفة وتترك طرفيها ينافسان ويشككان ببعضهما ويخوضان حروباً بالوكالة، وحتى حروباً صغيرة، وهي لا تسمح ببناء الثقة رغم تعايش الأضداد. ذلك التوصيف ينطبق إلى حد ما على الحالة بين دول ضفتي الخليج العربي حالياً، حيث تعود أشباح المواجهة لتطل برأسها ولنجد أنفسنا كدول في مجلس التعاون الخليجي بين فكي كماشة الشأن الإيراني الذي دخل مرحلة حرجة مع المقاطعة الأوروبية لنفط إيران، وبين سباق الحل الأمني والعسكري في الشأن السوري مع التلويح باللجوء للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لفرض رحيل الأسد مع عدم استبعاد خيار العمل من خارج الأمم المتحدة تحاشياً للفيتو الروسي والصيني. طبول الحرب تُقرع مرة أخرى في منطقة ملّت وشبعت من الحروب والعسكرة والمواجهات، وذلك على خلفية المقاطعة الأوروبية للنفط الإيراني، وهي مقاطعة تحرم إيران كثاني دولة منتجة للنفط في"أوبك"، من تصدير مليون برميل نفط يومياً، أي نصف النفط الإيراني المصدّر. وإلى ذلك ترفض الشركات المختصة تأمين ناقلات النفط الإيرانية، كما توقفت بعض الدول الأخرى، مثل كينيا، عن شراء النفط الإيراني، وخفضت دول أخرى، كاليابان وكوريا، وارداتها. وهذا جزء من دبلوماسية الإكراه التي تخنق إيران وتدفعها من قبل الدول الخمس الكبرى وألمانيا، لإعادة النظر في مواقفها وفي برنامجها النووي المرفوض غربياً. وتأخذ الحرب الباردة بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران أشكالاً وأبعاداً مرتبطةً بالأمن العسكري الصلب، وبالأمن الناعم أيضاً، وتشمل أوراقاً تضم العقيدة والطائفة والإعلام والحلفاء من الدول وغير الدول. وتتصاعد الحرب الباردة بين دول التعاون الخليجي وإيران، ونرى مسرح ذلك في المنطقة، وفي الاستفزاز الإيراني الذي يأخذ أشكالاً وألواناً، عبر دور إيراني في البحرين، وشبكات تجسس إيرانية في الكويت، والزيارة المستفزة من جانب الرئيس الإيراني إلى جزيرة أبو موسى المحتلة. كما نراه في العراق وسوريا، وفي لبنان بين القوى المتصارعة، وفي اليمن حيث خاص الحوثيون حرب وكالة ضد القوات السعودية. ونرى تجليات الحرب الباردة في تصريحات ومواقف وتبادل أدوار بين القيادة السياسية والعسكرية الإيرانية. وقد أتى "الربيع العربي" ليزيد من تماسك دول التعاون الخليجي التي نجحت في التعامل معه، بينما أثبتت نتائجه أن إيران كانت من أكبر الخاسرين. ونرى التباين بين دول مجلس التعاون وإيران حول أمن الخليج العربي. آخر استفزازات إيران سعيها لإعلان محافظة جديدة تسميها "الخليج الفارسي"، وعاصمتها جزيرة أبو موسى الإماراتية التي احتلتها إيران الشاه وتمعن إيران الحالية في مسح هويتها! ثم تزيد إيران من الاستفزاز بمناوراتها العسكرية المتتالية وآخرها مناورات "الرسول الأعظم 7" الأسبوع الماضي، والتي حاكت فيها مهاجمة قواعد عسكرية أميركية في المنطقة. وكذلك تجربتها الصاروخية في استخدام صاروخ "الخليج الفارسي" لإصابة هدف بحري، وتهديد قائد في الحرس الثوري الإيراني -أثناء المناورات- بأن إيران قادرة خلال دقائق على إصابة القواعد الأميركية الـ35 في المنطقة، بما فيها الكيان الإسرائيلي. لكن ما الهدف من المناورات وتجارب الصواريخ التي يتراوح مداها بين 200 و2000 كلم؟ وضد من يتم توجيه تلك الصواريخ؟ وما الرسائل التي تريد إيران إرسالها؟ أكثر المواقف الإيرانية تهديداً لأمن واستقرار منطقة الخليج ولأمننا كدول مصدرة للنفط والغاز ومستوردة لمعظم احتياجاتها، هو تهديدنا في عقر دارنا بحرماننا من مصدر دخلنا الرئيسي، أي النفط والغاز، وذلك عبر التهديد بإغلاق مضيق هرمز لمنع تصدير النفط الخليجي. ومنطق إيران في هذا الخصوص هو أنه إذا لم يسمح لها بتصدير نفطها، فلن تسمح للنفط الخليجي بالعبور... وهذه بلطجة مرفوضة تخالف القانون الدولي الذي يعرّف مضيق هرمز كممر مائي لا تملكه أي دولة. غير قانونيٍّ وغير مقبولٍ تهديدُ إيران بإغلاق هرمز، الممر المائي الذي يمر من خلاله 40 في المئة من النفط المشحون في العالم، وتمر عبره واردات الدول الخليجية من المواد الغذائية الأساسية وحتى المواد الكمالية. لقد استمرت إيران بتصريحاتها التي تبقي المنطقة في دائرة المواجهة بينها وبين المجتمع الدولي، بتكرار لاريجاني ما كان نجاد قد صرح به عام 2005 وهو إزالة إسرائيل من الخريطة، ما أثار ردات فعل غربية غاضبة استغلتها إسرائيل لتروج وضعها كضحية لنظام مصمم على إزالتها من الوجود! يبدو أن منطقة الخليج ستعيش إرهاصات هذه الحرب الباردة التي سترسم طبيعة العلاقات بين ضفتي الخليج، العربية والفارسية، فيما تشتد أصوات طبول الحرب التي تقرع وتقترب من المنطقة. وأختم بما ختمت به مقالي في هذه المساحة، يوم 23 أبريل الماضي، وكان عنوانه "فصول الحرب الباردة بين دول الخليج وإيران"، حيث كتبت: "علينا جميعاً (دول مجلس التعاون الخليجي وإيران) استيعاب الدروس والمتغيرات، وذلك لمصلحة دولنا وشعوبنا، وإلا فالبديل سيكون فصولاً أخرى من الحرب الباردة بين ضفتي الخليج العربي، في معادلة صفرية لا يكسب منها أحد"!