كثيرة هي المعضلات التي تواجه الرئيس الجديد في مصر محمد مرسي في مستهل ولايته. فقد تولى مهمته في الظرف الأكثر صعوبة بالنسبة لأي رئيس على المستويين الموضوعي والذاتي. فالتركة ثقيلة، والمشاكل متراكمة عبر عقود. والفوضى التي شاعت في المرحلة الانتقالية تزيد المعضلات الموضوعية صعوبة. كما أن خلفية الرئيس الجديد تحمّله أعباء إضافية لأنها تخلق حالة توجس لدى قطاعات مجتمعية وسياسية عدة وتضعه في اختبار مستمر عنوانه السؤال عما إذا كان بإمكانه الاستقلال حقاً عن جماعة "الإخوان المسلمين"، أم أن استقالته منها ستظل شكلية مادام مشروعها في عقله وقلبه؟ غير أنه رغم كثرة المعضلات التي تواجهه، يبدو أن ثلاثاً منها هي الأكبر والأكثر تأثيراً على نحو قد يجعلها محددات رئيسية، ليس فقط لنجاحه أو فشله، ولكن أيضاً لمسار مصر السياسي مستقبلاً. ولعل أهمها على الإطلاق معضلة إدارة العلاقة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي سلمه السلطة التنفيذية يوم 30 من الشهر نفسه وأراد أن يحتفظ بالسلطة التشريعية التي استحوذ عليها منذ حل مجلس الشعب بموجب حكم أصدرته المحكمة الدستورية العليا يوم 14 من الشهر الماضي. لكن مرسي عاجله بعد عشرة أيام فقط على دخوله القصر الرئاسي بقرار مفاجئ نص على انعقاد هذا المجلس إلى حين إجراء انتخابات برلمانية خلال شهرين من إصدار الدستور الجديد، وأراد مرسي بذلك أن يواجه المعضلة الأكبر في طريقه بتصديرها إلى المجلس الأعلى على نحو يخلط الأوراق ويزيد الوضع تعقيداً وينطوي على خطر صدام مبكر بين رأسي السلطة. فلا يخفى أن وجود المجلس الأعلى واضطلاعه بدور سياسي يلقى قبولاً لدى قطاعات يُعتد بها في المجتمع، تعتبر وجوده ضماناً لتحقيق توازن يحول دون هيمنة "الإخوان المسلمين" على البلاد. فقد أصبحت السلطة في مصر منذ بداية الشهر الجاري برأسين على نحو يفرض على مرسي إجراء حسابات معقدة في كل خطوة يقدم عليها. لكن الحسابات التي يضطره هذا الوضع إليها ليست من النوع الذي يجيده بحكم تخصصه في الهندسة وتفوقه فيها وقدرته المعروفة على التعامل مع الأرقام. إنها حسابات سياسية معقدة تفرضها إدارة علاقة شديدة الحساسية في ظل ازدواج قد يخلق صراعاً، لكنه لا يقود حتماً إلى صدام، لأن توازن القوى لا يسمح لأي من الطرفين بحسم الأمر لمصلحته بضربة قاضية أو في جولة واحدة. لذلك سيكون على مرسي إدارة العلاقة مع المجلس الأعلى بطريقة يمتزج فيها التعاون بالصراع الذي بدا واضحاً في قراره بشأن إعادة مجلس الشعب بعد أن ظهرت مقدماته في الخطاب السياسي من حين لآخر كما حدث في كلمتيه اللتين ألقاهما في ميدان التحرير وجامعة القاهرة في اليومين الأخيرين من الشهر الماضي. فكان حديثه "الثوري" في الميدان، وترديده شعار "ثوار أحرار هنكمل المشوار"، قبيل ساعات قليلة من تنصيبه رسمياً، تعبيراً عن أحد جوانب العلاقة المعقدة مع المجلس العسكري الأعلى. فقد جاء قرار إعادة مجلس الشعب ودعوته للانعقاد، رغم بطلان قانون انتخابه، تأكيداً لحديثه أثناء إلقاء كلمته في جامعة القاهرة عن عودة المؤسسات المنتخبة، في الوقت الذي كان المجلس الأعلى مصراً على أن الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب باتٌ ونهائيٌ. غير أن إقدامه على اتخاذ ذلك القرار الذي يحمل معنى الصدام لا ينفي حاجته للتفاوض والمواءمة مع المجلس الأعلى كما حدث بشأن الخلاف على طريقة أداء اليمين الدستورية. فقد رضخ لما تضمنه الإعلان الدستوري المكمل بشأن أدائه اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا، ولكنه استبق الإجراء "الرسمي" بآخر "شعبي" عندما أدى اليمين في ميدان التحرير. غير أن هذا النوع من التكيف ليس سهلاً في كل الأحوال. وقل مثل ذلك عن المواءمات السياسية التي سيضطر إليها الطرفان وسيجدانها صعبة في بعض الأحيان. وما الخلاف على مشروعية عودة مجلس الشعب للانعقاد بعد إصدار المحكمة الدستورية العليا حكماً ببطلان قانون انتخابه، إلا أحد مظاهر صعوبة التكيف والمواءمة بين رأسي السلطة. وثمة معضلة ثانية قد لا تقل أهميةً، وهي إدارة العلاقة مع الأحزاب والقوى السياسية سواء القريبة إلى مرسي أو البعيدة عنه والمعارضة له. وقد ظهرت مؤشرات أولى تدل على تعقيدات هذه العلاقة في الاتصالات والمفاوضات المتعلقة بتشكيل فريقه الرئاسي وحكومته، بسبب صعوبة التوفيق بين تحالفه مع السلفيين وحاجته لليبراليين في مواقع أساسية لتوجيه رسالة إيجابية إلى الفئات القلقة في المجتمع المصري وإلى العالم. وبدت هذه التعقيدات أكثر وضوحاً في رفض كثير من الأحزاب والقوى السياسية قرار مرسي بشأن إعادة مجلس الشعب ودعوته للانعقاد حتى إجراء انتخابات جديدة. ولعل استخدامه تعبير "الدولة المدنية" للمرة الأولى بعيد تنصيبه رسمياً، يدل على إدراكه ضرورة التقرب إلى أحزاب وقوى وفئات مجتمعية مختلفة. غير أن حديثه عن دولة مدنية قد لا يجد ارتياحاً لدى دوائر نافذة في جماعة "الإخوان" وليس فقط في بعض الأوساط السلفية. وربما تصل هذه المعضلة إلى ذروتها عندما تبحث الجمعية التأسيسية التي بدأت في وضع مشروع الدستور الجديد قضية الشريعة الإسلامية إذا لم يبد السلفيون مرونة. فرغم أن رئيس الجمهورية ليس معنياً بمسألة الدستور الجديد، وليس من صلاحياته التدخل فيها، فسيكون موقف حزبه (الحرية والعدالة) محسوباً عليه شاء أم أبى. وإذا كان انفضاض أحزاب وقوى ليبرالية من حوله أو تصاعد معارضتها له يضعف مركزه تجاه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فكذلك الحال بالنسبة لموقف الفئات القلقة في المجتمع وعلى رأسها النساء والأقباط. لذلك تبدو إدارة هذين الملفين معضلة ثالثة كبرى أمام مرسي لأن المكاسب التي يحققها من جرّاء تقديمه رسائل إيجابية بشأنهما قد تقابلها خسائر في "جبهته" التي تضم قوى قد لا يريحها أي توجه إيجابي بشأن النساء والأقباط، ناهيك عن أن يقترن مثل هذا التوجه بسياسات وقرارات وإجراءات. وتبدو هذه المعضلات الثلاث التي تواجه مرسي مترابطة من حيث إن نجاحه في حل ثانيتها وثالثتها ضرورتان للتعاطي مع الأولى. لكن هذا الحل صعب ويلقى مقاومة من قطاع يُعتد به في أوساط أنصاره داخل التيارات الإسلامية. ولذلك تبدو المعادلة صعبة بالنسبة إليه. وإذا أخذنا في الاعتبار أن التحديات الثلاثة ليست من النوع الذي تسهُل المناورة في مواجهته، تبدو كم هي عسيرة مهمته في الفترة القادمة.