يعتبر انعقاد القمة الأفريقية التاسعة عشرة في 15 يوليو 2012 انطلاقة جديدة في الحياة السياسية الأفريقية، والأفريقية العربية على السواء. فالقارة تخرج من ركودها، أو ركونها التقليدي إلى المشاكل المزمنة لتواجه تحركات كبيرة شمالاً وجنوباً، وهي التي لم تستطع في العام الماضي أن تستبين موضع قدمها إزاء التفجر الكبير في الشمال باسم "الربيع العربي" الذي جعل معظم نظم القارة في وضع المراقب الصامت لا المتحرك. وها هي قضايا كبرى، جديدة مثيرة، تضع قيادات القارة في توتر جديد لا يكاد يحتاج للمراقبة هذه المرة، ولكن يحتاج إلى الموقف والصياغة شبه المتكاملة. فها هي مصر وليبيا تصلان لصيغة ما لأوضاعهما مهما كان الإجماع أو الاختلاف حولها. لكن ها هي مالي والنيجر ومصر والجزائر تعاني حالة "توتر حادة نتيجة انتشار السلاح الليبي المتناثر شظايا تصيب وتهدد الجميع، وفي مقدمتها الآن مالي، وغداً لا يوحي بالاطمئنان، ولابد من حسم الموقف إزاء كل ذلك. وها هو الموقف في حوض النيل يترقب السلوك المصري والأثيوبي ومدى قدرتهما على التوافق أو التفجر. وها هي منطقة البحيرات جاهزة للتفجر في وجه الحكم في الكونغو، وتغير مراكز وسلوك البعض مثل رواندا وأوغندا، بعد التطورات الملفتة بالنسبة لوضع كينيا في أفريقيا. ثم ها هي جنوب أفريقيا تأتي مبكرة إلى الاجتماع تريد اقتناص رئاسة المفوضية وخلع القائم "الجابوني" عليها رغبة في تأكيد مركزها الإقليمي والقاري والدولي. بل إن جدول الأعمال هذا سيكتمل بالنظر في وضع فرنسا في غرب أفريقيا بعد التخلص من مناورات "ساركوزي" الفجة، ورغبتها في صيغ جديدة للهيمنة بالطبع، ومعالجة وضع وتوترات الجزائر في هذا الإطار. ويكتمل الجدول بشعاره لهذا العام عن مشكلات "التجارة البينية" التي تواجه صعوبة الآن أكثر من أي وقت مضى، بسبب السياسات الاقتصادية المحلية من جهة، بل وبسبب "الغزو التجاري" الصيني من جهة أخرى، خاصة وأن عدداً من الرؤساء أو المسؤولين مدعوون لحضور المؤتمر الصيني الأفريقي في بكين عقب القمة الأفريقية مباشرة. أي فرص إذن متاحة لمعالجة هذا الجدول الكثيف في ثمان وأربعين ساعة، علماً بأنني أكتب قبل الانعقاد مباشرة ببضعة ساعات! دعونا نأخذ عينة من أكثر القضايا التي تهم المنطقة العربية: أولاً: ولنبدأ بدلالة حضور الرئيس المصري للاجتماع ممثلاً لمصر التي ستبدو- رغم حجم الارتباك في ترتيب السلطات والمراكز- في حالة استقرار شكلي. ويثق الأفارقة أن مصر بتراثها "النظامي" سوف تسارع إلى الاستقرار والحضور الفعال كنظام سياسي مستقر بين نظم القارة. والمسألة التي لابد أن يكون جهاز الرئاسة والخارجية في مصر على وعي بها هي كيفية تقديم مصر لنفسها في ظهورها الجديد هذا. فالقلق السائد هو أن يكون قرار "الشمال الأفريقي" أن يمضي بثقله "كدول إسلامية"، فيضاعف ذلك من توترات القارة خاصة في غربها عموماً الذي تقوده نيجيريا، وفي الشرق على أرض الصومال وحتى سواحل كينيا وتنزانيا. فإذا ذهب الرئيس بهذا الوجه لمصر فإنها تخسر كثيراً إمكانيات ممارسة أدوار واجبة على مصر التاريخية في حوض النيل وغرب وشرق أفريقيا كدولة تحديث وتوازن دولي، وبوطنية "التحرر السياسي" الموروثة. بهذا الدفع بقيمة مصر التاريخية ونظامها المستقر تستطيع مصر التحاور مع أثيوبيا، ليس حول المياه وحدها ولكن حول الصومال وجنوب وشمال السودان، والتنمية في أوغندا، والعلاقات التاريخية بالكونغو، وقد آن الأوان لتطرح مصر تصوراً حول "حوض النيل" ككتلة إقليمية مثل الجنوب (سادك) والغرب الأفريقي (أيكواس) بل وتحية الجهود في "المغارب" ليس ضمن مشروعات "ساركوزي" للبحر الأبيض، ولكن ضمن توافق ضروري مع الجزائر والمغرب، وبعون تونسي، وربما قريباً ليبي ليحتل الشمال الأفريقي وزنه في دعم وزن مصر في حوض النيل نفسه. يمكن لرئيس "مصر الوطنية التاريخية" أن يزيل بعض القلق أو جله تمهيداً لمصر عربية أفريقية في أنحاء مختلفة من القارة، ولا تخشى مصر من جهود "الأوزان" التي ترهبها الدبلوماسية المصرية أحياناً، فثمة تطورات في وضع نيجيريا أو كينيا أو رواندا أو إريتريا وأنجولا والسنغال وكلها قابلة لدراسات جديدة نتيجة مؤثرات سلبية أو إيجابية في أوضاعها، وكلها يمكن النظر المصري الدقيق إليها بنظرة جديدة، نتصورها بعد ثورة مجيدة، وتحولات ملفتة في السلطة تحتاج الحذر والتدقيق. لا أتصور أن تغامر القوى الإسلامية في مصر، في مجال السياسة الخارجية، على نحو ما يفعل بعضها في السياسة الداخلية! فإذا سلموا بانعكاس الحزبي على الدولي فلتتحرك كل الأحزاب السياسية حتى بتيسير من الدولة لتقيم علاقات شعبية متعددة الوجوه في أنحاء القارة، وإذا سلموا بأنهم "كإسلاميين"، الأكثر اقتراباً من دول الخليج، فليعلموا أن هذه الدول تتحرك في القرن الأفريقي والسودان وجنوبه، بمنطق استثمارات لا حدود لها تحتاج إلى فهم مشترك لدورها ذى الطابع الاقتصادي وليس كدور ديني خاص، ولا أظن أنهم في حاجة لمزايدات حزبية من هنا أو هناك لأن المصالح تفرض نفسها بما نتمنى أن يكون دائماً مصالح شعبية لكل المنطقة التي تبحث عن مصيرها بإلحاح هذه الفترة. ولا أتصور أن يكون المشروع الإسلامي الشرق أوسطي مطروحاً ترضية لأحد خارج إطار المشروع الوطني الإقليمي للمنطقة كلها. ثانياً: دعونا ننتقل لصراع له دلالته، حول رئاسة المفوضية العامة للاتحاد الأفريقي. فثمة رئيس للمفوضية من الجابون حالياً هو السيد "جان بنج" يستحق- رسمياً- مدة ثانية، وثمة طرح منذ يناير الماضى من قبل جنوب أفريقيا أن تنقل المنصب للسيدة "دلاميني زوما" وزيرة الخارجية والداخلية السابقة في بلادها... وتشن جنوب أفريقيا حملة واسعة النطاق للحصول على المنصب، الذي ترى أنه لم يتحقق لها من قبل، وتقديراً لدورها الكبير اقتصادياً ودبلوماسياً، وكقائدة لكتلة "سادك" في الجنوب.... وتصل حدة الحملة ليجرى الحديث عن "الإغراء" بالاستثمارات الكبيرة من جهة، أو الإشارة إلى شلل النفوذ الفرنسي "الساركوزي" الفج للقارة عبر الجابون وممثلها في المفوضية، أو النيل من الرجل شخصياً إلى حد إصداره لبيان يرد على عشر نقاط تتهمه فيها جنوب أفريقيا مباشرة بأقسى الاتهامات التى يبرئ نفسه منها! وتجد منطقة الفرانكفون نفسها في حرج شديد، بل ويمتد الصراع إلى عناصر قوة وضعف أخرى، حول صراع جنوب أفريقيا من أجل مقعد مجلس الأمن- البعيد المنال الآن- فتصطدم بطموح نيجيريا بل ومصر، إلى محاولة الاستفادة من دورها في قضايا أفريقية مثل ساحل العاج وجنوب السودان، رغم أن "ثابو مبيكى" عراب النفوذ الدولى في هذه القضايا ليس على هذا المستوى من الولاء للرئيس "جاكوب زوما نفسه". الكثيرون يخشون تغول جنوب أفريقيا في الاتحاد الأفريقي، ويعتبرون أنهم عانوا من القذافي لفترة ولا يتوجب العودة لمركز نفوذ جديد، والبعض يرى أن "جان بنج" لم يستطع أن يتفاعل مع الأحداث التي تعرض لها الاتحاد، وأن الأمور تشير إلى احتمال تدهور أكبر في دور الاتحاد. ويبقى أن يكون إعلان اسم "رئيس المفوضية، بعد ساعات إشارة بدء من أي من الطرفين لدفع هذا التنظيم الإقليمي المهم إلى دور متجدد، يوازن بين القوى، ويدفع بالاتحاد في الساحة الدولية بما تسمح به الصراعات الدولية التي لا ترحم. بقيت قضية الصحراء الكبرى، وتدهور الوضع في "مالي". ولا أريد أن أعالج تفاصيلها هنا في هذه المساحة الضيقة، ولكني عائد من الجزائر مؤخراً حيث تحتفل البلاد بالذكرى الخمسين لثورتها المجيدة. وكان ثمة عدد من المثقفين العرب والأفارقة والآسيويين، ووزيرة سابقة من مالي، وقد أبكتنا الصديقة "اميناتا تراوري" على الأوضاع في بلادها، بين عناصر "انقلابية" تعطف هي نفسها على عناصرها من الجنود الفقراء الذين يشعرون بالجوع والبطالة كما تعطف على الدور العسكري في نفس الوقت. وعن تفتت البلاد وصراعات جبهة تحرير الطوارق والسلفيين وبما نسمعه من صراخ حول تمبوكتو، وكأنها مسألة مباني مقدسة وليست تفتت دولة عرفت بالمملكة المتحدة، التاريخية التي بناها "سونجاحا" العظيم منذ خمسة قرون. كشفت الأحاديث جميعاً عن كارثة الأسلحة الليبية، التي تبدو أنها تركت لتنشر عمداً في أنحاء القارة، تمتد من دارفور إلى موريتانيا إلى صعيد مصر وسينائها وفلسطينيها أيضاً! بدت المخاوف شديدة أولاً من شيوع الإرهاب أكثر وأكثر في هذه المنطقة مهدداً شمال أفريقيا وقلب الصحراء بالبلاد المحيطة لها. ومخاوف من محاولة جر الجزائر أو الإيكواس إلى حروب "محلية" أو إقليمية عقب تطورات في دائرة الطوارق بأكثر من دوائر السلفيين، أو كليهما، لتغرق القارة في كوارث جديدة لا تنتهي، لذا فإن الأمل هنا كبير حول نجاح وضع مدني جديد في ليبيا يدفع بالتعاون في الشمال الأفريقي إلى آفاق جديدة.