لا توجد أدلة أو حتى قرائن تدعم الرواية القائلة بأن هناك صفقة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وجماعة "الإخوان المسلمين"، وأنها تشمل إعلان فوز الدكتور محمد مرسي بدلاً من الفريق أحمد شفيق واحتفاظ المؤسسة العسكرية بنفوذها ومزاياها في إطار الدولة "المدنية" ورئيسها المنتخب الذي تقول هذه الرواية إنه وافق (ومن يمثلهم) على اقتسام السلطة. ولم يكن تبني صحفي مرموق ومعروف بصدقيته، مثل البريطاني روبرت فيسك، هذه الرواية إلا اعتقاداً منه بأن من يروونها يعرفون خبايا ما حدث. غير أن وقائع ما حدث على مدى ما يقرب من ثلاثة أسابيع منذ تنصيب مرسي رسمياً في الأول من الشهر الجاري، لا تسند رواية الصفقة، ناهيك عن أن تؤكدها، بل يبدو العكس هو الأصح. فالاتجاه العام في أحداث هذه الفترة يفيد وجود اضطراب في العلاقة بين الطرفين بسبب ازدواج السلطة الذي يخلق حالة صراع ظهر منذ البداية في الخلاف على كيفية أداء مرسي اليمين الدستورية، ثم في قراره إلغاء ما سبق أن قرره المجلس الأعلى بشأن حل مجلس الشعب تنفيذاً للحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا. ولم يكن تراجع مرسي بعد أن أوقفت المحكمة الدستورية العليا قراره إلا خطوة تكتيكية لتهدئة العاصفة التي هبت عليه بسبب هذا القرار غير المحسوب. كما يفيد تراجعه حرصاً على أن يبقى الصراع ناعماً وتحت سقف منخفض، وممتزجاً بتعاون لابد منه مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يبادله الحرص نفسه. فقد جاء رد فعله على قرار مرسي هادئاً، وترك التصرف للمحكمة الدستورية العليا مدعومة بحملة من القضاة في هيئات قضائية عدة ومؤيدة من كثير من الأحزاب والقوى المعارضة لتيارات الإسلام السياسي. فالطرفان، إذن، حريصان على إدارة الصراع بينهما بهدوء ليبقى ناعماً وممتزجاً بتعاون لا بديل عنه. لذلك لم يكن غريباً أن يقف مرسي والمشير طنطاوي متجاورين بعد ساعات قليلة على إصدار القرار الجمهوري الذي استهدف إعادة مجلس الشعب بعد حله، في احتفال بتخريج دفعتين جديدتين في الكلية الفنية العسكرية والمعهد الفني للقوات المسلحة. وهذه هي سمة ازدواج السلطة حين يحدث بين طرفين غير منسجمين، وقد يكونان متعارضين في اتجاههما، لكنهما مضطران للتعايش بسبب ميزان القوى الذي لا يسمح لأي منهما بحسم الأمر لمصلحته. وهذه هي الحال في مصر منذ تنصيب رئيس الجمهورية الجديد الذي يرأس السلطة التنفيذية، بينما يمتلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة التشريعية بحكم الإعلان الدستوري المؤقت الذي أصدره يوم 17 يونيو الماضي ونص على أن تؤول إليه هذه السلطة في غياب مجلس الشعب. لذلك لم يكن قرار مرسي إعادة هذا المجلس إلا محاولة غير موفقة باتجاه تغيير ميزان القوى على المستوى الرسمي، ورغم أن التوازن على الأرض هو الأكثر أهمية. والحال أن هناك تعادلاً في ميزان القوة بين الطرفين، حيث يعتمد المجلس على القوات المسلحة وبعض الأحزاب والقوى المدنية، بينما يستند مرسي على جماعة "الإخوان المسلمين" وغيرها من تيارات الإسلام السياسي، فضلاً عن جماعات دينية عدة دعوية واجتماعية. وإذا كانت القوة العسكرية ظلت هي الأرجح على مدى التاريخ، فقد أصبحت للتنظيمات الشعبية المتماسكة والمنضبطة ذات الطابع الحديدي والقائمة على تعبئة دينية أو حتى أيديولوجية صارمة قوة بالغة في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات، لأن حشد مئات الآلاف في مكان واحد يعطل القوة المسلحة إلا في حالة استعداد من يمتلكها لارتكاب مذابح دموية هائلة. وحتى في هذه الحالة قد لا يكون النصر حليفه في النهاية بدليل أن القوة العسكرية لم تحسم الصراع في سوريا لمصلحة الأسد، وأن القوة الشعبية تبدو مرشحة لفرض إرادتها في النهاية رغم أنها لا تستند على تنظيم حديدي، بل مبعثرة ومشتتة في أنحاء البلاد. وهذا فضلاً عن الاختلاف النوعي بين جيش مصر الوطني ذي التقاليد العريقة والذي وقف مع الشعب على مر تاريخه والجيش السوري الذي سادته نزعة طائفية في العقود الأربعة الأخيرة. ولذلك يبدو ميزان القوى على الأرض متعادلاً بشكل ما، أو على الأقل متقارباً إلى حد يصعب معه تطلع أي من الطرفين إلى حسم الموقف لمصلحته بشكل نهائي في أي أمد قصير أو منظور. وقل مثل ذلك عن ميزان القوى على المستوى الرسمي، وإن كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يبدو أقوى قليلاً على هذا المستوي بسبب امتلاكه السلطة التشريعية، فضلاً عن نفوذه في بعض أجهزة الدولة التنفيذية. ولعل هذا يفسر تعجل مرسي في محاولة انتزاع السلطة التشريعية من بين يدي المجلس الأعلى سعياً إلى تعديل ميزان القوى على المستوى الرسمي لمصلحته على أساس أن القوى الإسلامية تملك أغلبية في مجلس الشعب الذي فشل في إعادته بالطريقة المباغتة التي لجأ إليها. فقد أثّر تعجله سلبياً في سلامة القرار الذي اتخذه من الناحية القانونية على نحو جعل الطعن عليه سهلاً. ومع ذلك ربما يسعى إلى إعادة مجلس الشعب في وقت لاحق عبر الدعوة إلى استفتاء عام قياساً على بعض السوابق في مصر. لكن مشكلة هذا الخيار أنه ينطوي على احتمال أن تأتي نتيجة الاستفتاء لمصلحة حل مجلس الشعب، الأمر الذي يمثل انتكاسة لاشك فيها للرئيس الجديد في مستهل ولايته. وربما يكون الحذر من هذا السيناريو المحتمل هو ما أدى إلى استبعاد خيار الاستفتاء العام حالياً والإقدام على خطوة أخرى هي التصديق على قرار كان مجلس الشعب قد أقره قبل حله بشأن انتخاب الجمعية التأسيسية للدستور، لكن المجلس الأعلى لم يصدق عليه في حينه، وبالتالي لم يصدر. وجاء إصدار قانون التأسيسية في لحظة حرجة بالنسبة لمصيرها سيجعلها عنصراً آخر من عناصر الصراع بين الرئاسة والمجلس العسكري، وليثير جدلاً جديداً حول مدى فاعلية هذا القانون في حمايتها من دعاوى قضائية تطلب وقف عملها من ناحية، وعن الاستخدام السياسي للقانون عموماً في الصراع على السلطة من ناحية ثانية. وفي كل الأحوال، سيظل الصراع في كواليس سلطة الدولة المصرية مستمراً وممتزجاً بتعاون على سطحها، الأمر الذي يثير سؤالاً محورياً عن إمكان بقاء هذا الصراع ناعماً سلمياً ومدى احتمال تحوله إلى صدام خشن قد ينطوي على مواجهة عنيفة. والأرجح حتى الآن أن يظل الصراع ناعماً وسلمياً وممتزجاً بتعاون لا بديل عنه بين الرئاسة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة في الأمد القصير على الأقل لسببين: أولهما أن توازن القوى يعني عدم جدوى الصدام، لأن أياً من الطرفين لا يملك حسم الصراع لمصلحته بشكل نهائي. وثانيهما حرص كل من الطرفين حتى الآن على ضبط إيقاع هذا الصراع ومنعه من التصاعد أو الانزلاق إلى الصدام الخطر.