يقترح القادة الإسرائيليون، وبصيغ مختلفة، منذ أيام إسحاق رابين، قيام كيان فلسطيني. ورغم الاختلاف في وجهات النظر بين من يغادر ومن يأتي إلى الحكم في الدولة العبرية فإن معالم "حل الدولتين" عندهم محسومة! فهم، بدون استثناء، يلتقون على ضرورة الاستمرار في احتلال الأرض وما فوقها وما تحتها عملياً، وبناء المستعمرات (المستوطنات)، والتهويد، وبخاصة في مدينة القدس، أي في النواة الصلبة للصراع العربي الإسرائيلي. واليوم، يسارع الإسرائيليون إلى استصدار تشريعات ومنح تسهيلات ودعم مالي للمستعمرين (المستوطنين) في الضفة الغربية عامة، والقدس الشرقية خاصة، ما يسقط عملياً "حل الدولتين". وحول ذلك، كتب ألان فيليبس في مجلة "ناشيونال" البريطانية مقالاً جاء فيه أن "أحداً لا يولي القضية الفلسطينية اهتماماً كبيراً في هذه الأيام. هذه المسألة التي كانت القضية المحورية في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، أصبحت الآن مجرد حدث هامشي، بعد أن غطّى عليها الملف الإيراني، وتركيز الرئيس الأميركي على إعادة انتخابه من دون الدخول في أي اشتباكات جديدة في الشرق الأوسط". ويضيف الكاتب: "اليأس من هذا الوضع بدأ يغير معالم الجدل بشأن الدولة الفلسطينية. وتتعلق المسألة المحورية الآن بتحديد ما إذا كان إقرار حل الدولتين لا يزال قابلا للتنفيذ". ومن جهته، يتحدث "باتريك سيل"، الصحفي البريطاني المعروف، عن أخطاء أساسية لإسرائيل، مؤكداً أن الخطأ الأول الذي تتفرّع منه الأخطاء الأخرى هو رفض إسرائيل رفضاً قاطعاً السماح بقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وفي قطاع غزة المحاصر". وعلى صعيد مختلف، انتقد البروفيسور الفلسطيني رشيد الخالدي، في مقابلة مع صحيفة "القدس" حل الدولتين، لتجاهله قضية اللاجئين الفلسطينيين وإغفاله فلسطينيي 48، وقال: "كيف ينسجم حل الدولتين مع استمرارية هذه الديناميكية اليمينية التي سيطرت على مؤسسات الدولة الصهيونية واحدة بعد الأخرى بما في ذلك الجيش... حل الدولتين لن يحل الصراع، ولا أرى كيف أن هذا الحل سيكون النهائي والوحيد وفقاً للرؤية الإسرائيلية التي ترفض عودة أي فلسطيني داخل الخط الأخضر. كذلك كيف سيتعاملون مع المشكلة المتزايدة التي تمثلها الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل. حل الدولتين لا يتطرق لذلك. هذا جزء من القضية الفلسطينية. وهي مشكلة إسرائيلية. الترانسفير ليس هو الحل. والتطهير العرقي ليس هو الحل". إن عددا متناميا من المفكرين والسياسيين والإعلاميين البارزين على الصعيد العالمي (وبينهم إسرائيليون) توصلوا جوهرياً إلى إن تجديد الحديث عن حل الدولتين كاستراتيجية باتت تثير السخرية. فالجميع يعرف أن إسرائيل ماضية في جعل هذا الحل سراباً. ذلك أن ما بقي من أرض لتقوم عليها الدولة الفلسطينية بات محدوداً جداً، فيما تربط إسرائيل أي "تنازل" تقدم عليه بمطلب "الأمن الإسرائيلي" المطاط الطابع. وحتى الآن لم يعلن أحد من حكام إسرائيل استعداده للتخلي عن الأراضي المحتلة في عام 1967 وعلى رأسها القدس باعتبارها "قدسهم الموحدة إلى الأبد!". لذلك، يخلص معظم المحللين إلى أنه يتوجب أن لا يتعلق جوهر الأمر بـ"شكل" الدولة الفلسطينية العتيدة، لكن بمضمون تلك الدولة أي: المستقلة القادرة على إدارة أمورها وأمور شعبها والمترابطة جغرافياً، ذلك أن خيار حل الدولتين لا يعني التكيف مع الاستعمار (الاستيطان). فالحقائق الإسمنتية التي وضعتها إسرائيل على الأرض التي قسمت الضفة وحولتها إلى كانتونات لا يمكن تجاهل أنها تستهدف رسم حدود مفروضة على الفلسطينيين. وفي هذا السياق، تلاحظ جمهرة متزايدة من المراقبين أن الحكومات الإسرائيلية لطالما رفضت البحث الجاد في القضايا المتعلقة بالوضع النهائي مفضلة إرجاءها إلى نهاية الطريق التي لم يتم الوصول إليها حتى اللحظة والتي من الواضح أنه لن يصار إلى الوصول إليها أبداً. وبهذا تراجع "الأفق السياسي" لحل الدولتين، والذي يجري إفشاله إسرائيلياً بشكل مستمر على قاعدة أن نهاية فكرة الدولتين يبقي في الميدان ثلاثة خيارات فقط: الترحيل، والتفرقة العنصرية، والدولة الإسرائيلية اليهودية الواحدة من البحر إلى النهر. وإسرائيل تمارس حاليا الخيارات الثلاثة، فهي تعمل منذ سنوات على محو ما يسمى "الخط الأخضر" ببناء مكتظ على جانبيه، وتعيد تخطيط مسار جدار الفصل العنصري ليشمل المستعمرات الاستيطانية الكبيرة بمنطقة القدس، وتقيم أحياء كاملة شرقي القدس وما حولها. لقد كشف استطلاع حديث مشترك للرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي أن أغلبية بين الإسرائيليين (71 في المئة) والفلسطينيين (68 في المئة) تعتقد أن فرص قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل خلال السنوات الخمس القادمة ضئيلة أو منعدمة. وأشارت نتائج الاستطلاع الذي أعده وأشرف عليه -بشكل مشترك- الدكتور خليل الشقاقي، أستاذ العلوم السياسية ومدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية والدكتور يعقوب شامير أستاذ الاتصالات بالجامعة العبرية، إلى أن أغلبية من الإسرائيليين (56 في المئة) تؤيد حل الدولتين فيما تعارضه نسبة 40 في المئة. أما بالنسبة للفلسطينيين فهناك انقسام، حيث تؤيد هذا الحل نسبة 49 في المئة، وتعارضه نسبة 49 في المئة، لكن أغلبية من الطرفين، 58 في المئة من الإسرائيليين و55 في المئة من الفلسطينيين، تعتقد أن حل الدولتين سيفشل بسبب البناء "الاستيطاني". وفي ضوء هذا الاستطلاع (وغيره من آراء رصينة لمعلقين وباحثين بارزين)، فإن الفرص اليوم أمام "حل الدولتين" تضيق أكثر فأكثر مع حكومة يمين متطرف، يؤمن رئيسها أن "مبدأ دولتين لشعبين تهديد لإسرائيل، وأن سيادة فلسطينية كاملة تشكل خطراً، ومنح السلطة الفلسطينية إدارة دولة مستقلة كمن يخلق دولة موالية وحليفة لدول معادية لإسرائيل". بل إن المحلل السياسي الإسرائيلي "عكيفا إلدار" يمارس (وقبله الدكتور يوسي بيلين وغيره) دوراً تحريضياً حيث يقول في مقال نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بعنوان "الاستقلال يؤخذ ولا يعطى": "جعل اتفاق أوسلو منظمة التحرير الفلسطينية أداة لإبقاء الاحتلال الإسرائيلي. حان الوقت لجيل أوسلو من الفلسطينيين أن يعترفوا بفشل الخيار الدبلوماسي، وأن يعلقوا بدلاتهم وأن تنهي المنظمة الشرف الذي منحته لنفسها وأن يخرج هذا الجيل إلى الشوارع". ويخلص "إلدار" إلى أنه "لو أن جيل الإسرائيليين المؤسس انتظر على مكاتب السلطة الإسرائيلية حتى يتكرم البريطانيون بالموافقة على الانسحاب، فربما لم نكن نحتفل الآن بـ 64 عاماً من الاستقلال"!