الهند وتطوير العلاقات مع " آسيان"
تعود سياسة "التوجه إلى الشرق" الهندية إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي عندما سعت نيودلهي إلى تمتين صلاتها التجارية مع دول جنوب شرق آسيا والاستفادة من زخمها الاقتصادي المتنامي. بيد أن العلاقة مع البلدان الواقعة إلى الشرق من الهند لم تصل مرحلة النضج إلا مؤخراً.
وضمن هذا الإطار فقد انخرطت نيودلهي طيلة السنوات الأخيرة في تطوير صلاتها الاقتصادية والسياسية مع مجموعة بلدان جنوب شرق آسيا المعروفة اختصاراً باسم "آسيان" التي تضم عشر دول هي "إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وبروناي ولاوس وفيتنام وميانمار ثم كمبوديا"، وبخاصة بعدما أصبحت الحاجة إلى تمتين الأواصر بين الهند وتلك الدول أكثر إلحاحاً اليوم في ظل الصعود الطاغي للصين، التي بدأت تستعرض عضلاتها الاقتصادية والعسكرية في المنطقة.
فعلى غرار الهند تشعر دول "آسيان" بالقلق من صعود الصين، وهو الأمر الذي دفع بحكومات تلك الدول إلى الالتفات إلى الهند التي تعتبر ثالث أكبر اقتصاد في آسيا وينظر إليها أيضاً باعتبارها القوة القادرة على مواجهة الصين وموازنة نفوذها المنتشر في عموم القارة.
ولعل ما يقلق بلدن" آسيان" أكثر هو المأزق المتواصل حول مياه بحر جنوب الصين الذي تتنازع عليه مجموعة من البلدان كل منها يدعي سيادته على قسط من مياه البحر، فكل من الصين والفلبين وتايوان وبروناي وفيتنام وماليزيا يتنافسون على بحر جنوب الصين فيما انخرطت أيضاً الولايات المتحدة في الموضوع، داعية الصين إلى القبول بمعايير محددة لحل الأزمة، ولم تتأخر الهند نفسها في الدخول على الخط والمطالبة بحل النزاع على مياه بحر جنوب الصين من خلال الأساليب الدبلوماسية والابتعاد عن كل ما من شأنه توتير العلاقات والانزلاق بها إلى منحى خطر.
هذا النزاع بين الدول الآسيوية حول مياه بحر جنوب الصين يوضح المدى الذي قد يصل إليه التوتر بين بلدان القارة الآسيوية، لا سيما بعد تصاعد المطالب الصينية واستعراضها للقوة العسكرية في ظل ما تستشعره من تراجع القوى الأميركية وتناقص نفوذ الولايات المتحدة المنشغلة بمشاكلها الخاصة.
ولعل هذا السياق ما يجعل من الزيارة التي قام بها رئيس وزراء سنغافورة، "لي هسين لونج" إلى الهند مهمة للغاية، فقد كانت سنغافورة تحت قيادة رئيس وزرائها السابق، "لي كوان يو" هي من دفع باتجاه إشراك الهند في أنشطة دول آسيان، فجاء رئيس الوزراء الحالي، "لونج"، ليؤكد إرث سلفه وليطلب من الهند الانخراط الفعال مع دول "آسيان"، لا سيما فيما يتعلق بالتوقيع على اتفاقية الاستثمار والخدمات بين الهند ودول آسيان كجزء من اتفاقية التجارة الحرة التي وقعت عليها الهند في وقت سابق.
ويتوقع بعد زيارة رئيس الوزراء السنغافوري التعجيل بتوقيع الجانب المتعلق بالاستثمار والخدمات من الاتفاقية الذي كان يواجه حتى اليوم بعد الصعوبات لما ينطوي عليه من تعقيدات.
فقد بات معروفاً اليوم أنه في ظل الانكماش الاقتصادي الذي يعرفه الغرب يبقى الأمل معقوداً على دول جنوب وشرق آسيا مثل الصين والهند في دفع النمو في المنطقة والعالم والتخفيف ولو قليلاً من أعباء الأزمة المالية.
لكن دول" آسيان" لا تقتصر مطالبها على الانخراط الاقتصادي للهند والمشاركة في الأنشطة التجارية بين الدول، بل تريد أيضاً حضوراً سياسياً للهند في قضايا المنطقة.
وفي هذه اللحظة، تبقى سنغافورة أهم شريك تجاري للهند بحجم مبادلات يصل إلى 23 مليار دولار، كما أنها تحتل المرتبة الثانية كأكبر مستثمر خارجي بالهند.
ومن جهتها حرصت نيودلهي على إيلاء علاقتها بدول جنوب شرق آسيا، خاصة تلك المنتظمة في إطار "آسيان"، كل الاهتمام وذلك في سياق توجه سياستها الخارجية نحو الشرق، لذا وفي الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء السنغافوري يجري مباحثات مع نظيره الهندي "مانموهان سينج" ويتحاور مع أعضاء الغرفة التجارية في نيودلهي كان وزير الخارجية الهندي "السيد كريشنا" يشارك في الاجتماع الوزاري العاشر لدول "آسيان" بكمبوديا، حيث أكد الوزير أن علاقات بلاده مع دول "آسيان" تندرج في إطار المساعي الهندية لتوجيه سياستها الخارجية نحو دول الشرق لما تزخر به من إمكانات اقتصادية واعدة، وفرص تجارية غير مسبوقة.
وفي محاولاتها لتوسيع نطاق علاقتها مع دول "آسيان"، ركزت الهند على تعميق المبادلات التجارية وتطوير الروابط الاقتصادية وتحقيق المزيد من التقارب والاندماج من خلال المشاركة في اتفاقية الشراكة الإقليمية، التي ما زال التفاوض بشأنها جارياً.
كما أن الهند تقوم حالياً بطرح جملة من مبادرات التعاون لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل تمتد أيضاً إلى الجانب العلمي والثقافي، هذا التعاون تؤطره جملة من الاتفاقيات بشأن التنسيق الثقافي والتكنولوجي وتبادل الخبرات في مجال الفضاء والبيئة والسعي إلى الربط القاري وإقامة شبكات طرق مشتركة تسهل التقارب بين الشعوب.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة أيضاً إلى كون السنة الجارية تخلد مرور عقدين على انطلاق حوار الشراكة بين الهند ودول" آسيان"، وهي الذكرى التي قررت الهند الاحتفاء بها في شهر ديسمبر المقبل باستضافتها لقادة مجموعة دول "آسيان" في قمة كبرى بالعاصمة الهندية، نيودلهي، خلال يومي 20و 21 ديسمبر المقبل، ولا شك أن القمة ستشكل مناسبة لإعادة التأكيد على تطوير العلاقات مع الهند وتمتينها في أفق تحقيق الأهداف الاستراتيجية سواء في الجانب الاقتصادي الذي ينتظره منه العالم مساهمة أكبر لدفع النمو العالمي والتخفيف من الأزمة، أو الجانب السياسي من خلال الوقوف إلى جانب دول المنطقة المتوجسة من صعود الصين.