حديث الوحدة والثورات
حضرت قبل أيام مهرجان أصيلة في دورته الرابعة والثلاثين، وكان الاتحاد المغاربي العربي ضيف الشرف في هذه الدورة، وبدا واضحاً أن انعقاد ندوة عن الاتحاد المغاربي بعد طول صمت وغياب هو إحدى ثمرات ما بات يسمى الربيع العربي، وحسب المتابع أن يتأمل مفارقة مهمة هي حديث التفرق والتشتت والتمزق في البلدان التي لم تنجز ثوراتها انتصارها بعد، وحديث الوحدة والاتحاد حين تنتصر الثورات.
كان أهم ما يلفت الانتباه في المغرب ذاك الارتياح الذي يعيشه الناس، يقول لي سائق التاكسي "نحن نحب ملكنا، لأنه استجاب لمطالب الشعب دون أن يكلفنا عناء الثورات وكلفتها الباهظة"، وهذه حقيقة سيحفظها التاريخ لملك المغرب الذي فهم أسرع مما فهم قادة عرب، أحدهم فهم حين فات الأوان فاضطر أن يهرب، والثاني لم يفهم حتى صار في سجن مستشفى، والثالث لم يفهم حتى احترق، والرابع لم يفهم حتى أخرجه شعبه من نفق الذل والمهانة والعجيب ألا يفهم من يعيش الظرف نفسه.
ولكن ملك المغرب ذكرني بسياسة معاوية بن أبي سفيان وحواره مع عمرو بن العاص حيث يروى أن "معاوية بن أبي سفيان قال لعمرو بن العاص فيم دهاؤك يا عمرو؟ فقال ابن العاص: لا يقع أمر إلا وجدت له مخرجاً، فضحك معاوية وقال: أما أنا يا عمرو، فإني أحتال للأمر ألا يقع". وبعض قادة العرب عجزوا عن أن يجدوا للأمر مخرجاً، بل إنهم لم يصدقوا أن الأمر وقع أصلاً، وحين داهمهم قالوا إنهم الجرذان والجراثيم، وقد أعمت جرثومة الغرور والتكبر أعينهم، فقادوا بلادهم إلى الخراب والدمار.
وحديث الاتحاد المغاربي يفتح آفاقاً لمستقبل الاتحادات العربية، وإن بدا هذا الحديث سابقاً لأوانه في بلدان ما تزال تعالج الهزات الارتدادية للثورات، إلا أنه جدير بالنظر على صعيد النخب، وقد حظيت النخب ذاتها باهتمام بالغ في ندوة أصيلة، فقد كانت الندوة بعنوان "دور النخب في أفق بناء الاتحاد المغاربي"، وكثر الحديث فيها عن كون النخب العربية الثقافية قد عاشت عقوداً تدور في فلك الأنظمة الحاكمة ونخبها السياسية، حتى باتت عبئاً على شعوبها. وأنا أشهد بحقيقة ذلك، فقد كانت الخيارات قاسية، ولم يجرؤ على الخروج من قبضة الأنظمة إلا عدد محدود، قضى عمراً في السجون، وقد كانت الأنظمة الديكتاتورية تعاقب النخبوي حتى إن صمت عن مديحها وإعلان الولاء لها، فإن كان شاعراً ولم يمدح فإن جام الغضب سينصب على رأسه ورأس عائلته، ولم يكن سهلاً أن تختار النخب السجون والمنافي، ولكل ظرفه الخاص وطاقته في التحمل.
ولن ألوم النخب العربية، فقبل أن يشعل البوعزيزي عود ثقابه ليفجر الأرض العربية لم يكن بوسع نخبوي أن يكتب مقالاً بسيطاً فيه شيء يسير من النقد دون أن يتعرض للمساءلة، وربما للسجن، وقد كنت أزور ليبيا وأنظر في وجوه الناس زمن القذافي، وأعجب كيف يصبرون على جنونه، وكيف يستقبلون خطاباته الهزلية بالتصفيق والهتاف، وأدرك أن بعد هذا الصمت انفجاراً كبيراً لا يعرف موعده إلا الله. ولئن كانت الحالة في ليبيا فاقعة في السخرية المريرة، فقد كانت دموية كذلك في دول عربية أخرى.
وقد تساءلت في نفسي وأنا أتابع ندوة أصيلة أكان ممكناً أن يعود الأمل باتحاد مغاربي عربي والقذافي على كرسي عرشه يشتم العروبة حيناً ويدعو إلى اتحاد إفريقي ويحلم أن يكون ملك ملوك أفريقيا؟ وهل كان ممكناً أن يتحول حلم الاتحاد المغاربي إلى حقيقة وزين العابدين يتحول إلى حاكم مستبد يحمي مصالح الغرب الذي لا يريد أن يرى دولة عربية قوية على الشاطئ المقابل له من المتوسط؟ لكن الحال تغير اليوم، وقد قال وزير الاتصال المغربي مصطفى الخلفي: "إن الحديث عن دور النخب في بناء المغرب العربي، هو حديث عن الفاعل الذي سيحول السياسات إلى خطوات عملية"، فالنخب الثقافية التي كانت تدور في أفلاك نخب السياسة باتت اليوم متحررة منها، وصار بوسعها أن تنشر ثقافة الاتحاد، وأن توضح للشعوب أهمية ما يتحقق من مصالحها من خلاله، والشعوب اليوم هي صاحبة القرار، والمهم في أفق الاتحاد اليوم هو البحث عن المصالح المشتركة بين مكونات الاتحاد، وبين الأمة العربية، مع قبول كامل بالشراكة مع الغرب، فثورات الربيع العربي لا تبحث عن قطيعة، وإنما تبحث عن تكامل للمصالح، وعن حوار بين الثقافات، ولكننا لا نعرف كيف سينظر الغرب إلى أي اتحاد عربي في المتوسط خارج عن رؤية الشراكات المتوسطية المطروحة التي تريد من العرب أن يكونوا تابعين، وأن يضعوا كل إمكاناتهم في خدمة المشاريع الغربية، بل والصهيونية كذلك.
ويدعونا التفاؤل المبكر بثمار الحراك العربي إلى أن نتوقع مستقبلاً دعوات مماثلة لدعوة أصيلة، تستعيد الحضور الإقليمي الجغرافي للأمة العربية، وقد ظهرت من وقت قريب دعوات طيبة لتطوير شكل ومضمون عمل مجلس التعاون الخليجي، بعضها نادى بإقامة اتحاد خليجي لمواجهة الأخطار المحتملة على أمن الخليج، وبعضها أراد توسيع دائرة التعاون الخليجي العربي، ومنها كانت الدعوة إلى ضم المغرب ومن ثم الأردن ربطاً حيوياً بدول مجلس التعاون. ولابد أن يأتي يوم قريب بعد أن تستقر مصر نسمع فيه دعوات لاتحاد في وادي النيل يضم مصر والسودان. وعلى رغم كل ما يعانيه السوريون اليوم، وما يشكل هاجساً مريعاً وحذراً من دعوات التقسيم فإنهم مؤمنون بأن مستقبل منطقتهم رهن اتحاد بين دول بلاد الشام. وهكذا فإن الثورات العربية أحيت الآمال على رغم كل ما يحيط بنا من إحباط، ولا رد على دعوات الانفصال والتقسيم والتجزئة سوى الإصرار على الاتحاد، وبالطبع لا يفكر أحد في استعادة النموذج العسكرتاري الذي كان شكل الوحدة الفاشلة بين سوريا ومصر دون رؤية ديمقراطية، وكان الاستبداد وإلغاء الحياة السياسية سبباً في إخفاقها، ولئن كنا نستبق الأحداث في أحلامنا، فإن النخب المغاربية التي سارعت إلى إحياء الأمل ببناء الاتحاد المغاربي لم يكن يفوتها أن الندوة في أصيلة هي مجرد رؤية متقدمة متأملة للأفق الذي يعيد للأمة حضورها وسط تكتلات الأمم.