قضية الحكم بين مؤنس وهيكل
انشغل مفكرون كثيرون بقضية الإسلام والحكم، من بينهم اثنان بارزان لم يحظيا بنصيب وافر من الاهتمام في هذه الناحية هما الدكتور حسين مؤنس والدكتور محمد حسين هيكل. ويعتبر المؤرخ والمفكر المصري حسين مؤنس أن التكوين السياسي لأمة الإسلام هو "تكوين يقوم على بيعة أو ميثاق أو تعاهد"، وأن الشورى بصورتها التي قدرها الرسول، صلى الله عليه وسلم، ونفذها أساس من أسس بناء أمة الإسلام، وبدونها لا يكون تسيير أمور الجماعة حواراً وتبادل آراء، بل يكون إملاء، وهنا لا تسير أمة الإسلام في طريقها الصحيح.
ويرى أن "رسالة الإسلام لم تكن قط إقامة ملك إسلامي، بل إقامة نظام جديد سياسي اجتماعي، يقوم على الترابط والتآخي والإيثار واستبعاد سيطرة الإنسان على الإنسان، واستبدال سلطة الملك بسلطة الضمير.. ولا يكون الخليفة في هذه الحالة إلا رمزاً للعدل، وضماناً للأخلاق" ثم يقول: "لقد أنشأ رسول الله عليه الصلاة والسلام أمة، أي جماعة ترجع على أم واحدة، فهم أخوة، ولم يقم رسول الله دولة، لأن الدولة تحمل معنى السلطان والقوة والغلبة، وهذه كلها لله وحده، أما الذي لنا فهو أن نتآخى في الله، ويرعى بعضنا بعضا حباً في الله".
وينتقد الدكتور حسين مؤنس المفكرين السياسيين المسلمين، وكلهم فقهاء، نظراً لأنهم في نظره افتقدوا إلى إدراك حقيقة مهمة وهي أن "السياسة شيء، والإسلام وعقيدته وشريعته شيء آخر، فالسياسة عند ابن خلدون قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها، ثم يفرق بين السياسة العقلية المفروضة من أكابر الدولة وبصرائها، والسياسة الشرعية المفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها. وما سكت عنه ابن خلدون، ذكاء منه وحرصاً، أفصح عنه ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية".
ويبدي مؤنس استغرابه من أن الفكر السياسي الإسلامي كله انحصر في موضوع "الخلافة الملكية" هذا، "من يستحقها ومن لا يستحقها.. وكيف يستطيع الملك أن يكون رحيماً برعيته، وما الذي يصلح السلطان، وما الذي يفسده وما إلى ذلك من المباحث الفرعية، البعيدة جداً عن طبيعة أمة الإسلام وغاياتها. ونحن لا نريد بهذا أن نقول إن الخلافة ليست من الإسلام، أو أن الملك يتعارض مع الإسلام، فإن الخلافة أو الملك أو السلطنة وما إليها صور شكلية لممارسة تنظيم أمور الأمة، فالإسلام لا ينكر الخلافة، ولا ينكر الملك أو الإمارة، فهذه كلها أشكال تنظيمية إذا ارتضتها الأمة واختارتها لم يكن بها بأس، ولكنها تظل كما قلت تنظيمات شكلية، للأمة أن تصوغها كيف تشاء. أما المهم فهو الأمة الحرة الكريمة المؤمنة المتحدة في المبادئ والغايات، الملتفة حول القرآن، المؤمنة بالإسلام إيماناً صحيحاً". وينتهي مؤنس إلى أن دستور الإسلام هو هو "قانونه الأخلاقي، الذي هو قاعدة الحياة، وأصل الحياة الإسلامية".
أما حسين هيكل، فيأخذ هذه القضية إلى مستوى أعمق، ليدخل إلى صلبها، من دون مواربة ولا تردد، فيفرق بين كون الإسلام يفرض قواعد أساسية لحياة الأسرة، والميراث والتجارة والبيع، وهي مسائل استفاض الفقهاء في شرحها، وعملوا على تقديم اجتهادات فيها تواكب الواقع المتجدد، وبين تحديده نظام حكم بعينه. وهنا يقول: "هذه القواعد الأساسية لشؤون حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والخلقية، لم تتناول أي تفصيل في الأساس الذي تقوم عليه الدولة. ولم تتعرض لنظام الحكم تعرضاً مباشراً، والآيتان الكريمتان «وشاورهم في الأمر» و«أمرهم شورى بينهم» لم تنزلا في مناسبات تتصل بنظام الحكم".
وتأسيساً على عدم ورود أي شيء في النص المؤسس للإسلام وهو القرآن الكريم يفصل في تبيان نظام الحكم، ينتقل هيكل إلى مستوى الممارسة، فيرى أن فكرة الحكم لم تكن مفصلة القواعد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، وأن الرسول الكريم لم يغير نظم الحكم البسيطة التي كانت سائدة في مجتمع البادية، وقبل الاختلاف والتباين بينها، ونادى فقط بأن تعتمد في تسيير الحياة على المبادئ العامة للإسلام وفي مطلعها العدالة والمساواة والحرية، وأنه لم يغير الأوضاع التي كانت قائمة في مكة نفسها بعد أن فتحها، ولم يضع نظاماً مفصلاً للحكومة الإسلامية.
ويقر هيكل بأن "القواعد الجديدة التي جاء بها الإسلام لتنظيم السلوك والمعاملات، كانت مقدمة لتنظيم سياسي لا مفر من استقراره، وقد اطمأنت قواعده بالفعل شيئاً فشيئاً، متأثرة بالبيئة وأحداث التاريخ"، لاسيما بعد اتساع حركة الفتوحات الإسلامية، فانتقلت أساليب وأنماط الحكم التي كانت متبعة عند الفرس والروم إلى "الحكم الإسلامي"، فانتقل من "الإمبراطورية الروحية" في عهد الخلفاء الراشدين إلى "الإمبراطورية السياسية" في زمن الأمويين والعباسيين. فقد كان أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أولياء على قومهم باختيار الناس لهم ومبايعتهم إياهم. فالراشدون ولاهم الشعب فكانوا وكلاءه.
وهناك نقطة غاية في الأهمية لفتت انتباه هيكل، إذ يقول: "إن أحداً من فقهاء المسلمين في العصر الحديث، لم يتجه نظره إلى تصوير الفكرة الإسلامية في الحكم تصويراً كاملًا، وتطبيق هذا التصوير على الأمم الإسلامية في هذا الزمن الذي نعيش فيه. لم يتجه أحدهم ليقيم مذهباً كاملًا بين الحدود والتفاصيل، يضع كل شأن من شؤون الجماعة في المكان الواجب له من نظام الحكم في الإطار الإسلامي الصحيح".
وينتهي هيكل إلى أن الإسلام لم يحدد شكلاً ثابتاً للحكم، خلافة كانت أو ملكاً أو سلطنة أو إمارة أو رئاسة أو غيرها، لكنه عني بإقرار مجموعة من المبادئ التي يفرض اعتمادها وتطبيقها، دون الالتفات إلى شكل الحكم السائد، وهي: "الإيمان الحق بالله تعالى، وبثبات سنته في الكون ثباتاً ندركه بعقولنا الحرة وتفكيرنا المتصل، وأن نتعاون فيما بيننا على أن يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يؤدي الفرد واجبه لله وللجماعة، وأن تؤدي الجماعة واجبها لله وللأفراد جميعاً".