"ميانمار" ومصاعب التحول الديمقراطي
عدت مؤخراً من زيارة إلى ميانمار (بورما سابقاً) التي ما كان لي أن أدخلها عندما كنت مديراً تنفيذياً في منظمة الشفافية الدولية -فرع الولايات المتحدة، بسبب الانتقادات التي كانت توجهها المنظمة لحكام ميانمار لغياب الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان. ولكن هذه المرة حصلت على التأشيرة بسهولة من مطار العاصمة رانجون وتمكنت من دخول البلاد، وبالمثل اختارت الناشطة الديمقراطية والزعيمة السياسية التي تحظى باحترام عالمي واسع "أونج سان سو كي"، البقاء في البلاد منذ عام 1989 والامتناع عن السفر إلى الخارج نهائياً مخافة عدم السماح لها بالعودة واضطرارها للعيش في المنافي بعيداً عن أرض الوطن. ولكن هذه المرة أيضاً وبعدما انتخبت نائبة في البرلمان وحصلت على تطمينات بالسماح لها بالعودة قامت بأول زيارة لها إلى الخارج منذ أكثر من 24 عاماً، لتبدأ بتايلاند قبل أن تذهب إلى بلدان أخرى. والحقيقة أن ما تغير حتى الآن في ميانمار، على الأقل ظاهرياً، هو تحول جنرال إلى رجل مدني وتولى "تين سين" الرئاسة بعدما خلع البزة العسكرية، ليبقى السؤال عما إذا كان الانفتاح الأخير الذي تشهده البلاد وتخفيف الحكم الاستبدادي الذي غرقت فيه لعقود طويلة سيستمر طويلاً، أم أن الزمن قد يأتي بما لا تشتهيه الديمقراطية؟ وهل التغييرات الأخيرة التي يرقبها العالم بكثير من الاهتمام هي مجرد نزوة جنرال حاكم قرر في لحظة ما الانفتاح على العالم، أم أنه تغيير جوهري وحقيقي في بنيات الحكم وهياكل الاستبداد؟
مهما تكن الإجابة يبقى المؤكد في الوقت الحالي هو أن العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية التي فرضت على النظام طيلة السنوات الماضية سواء من قبل الغرب، أو الدول المجاورة التي هالها حجم القمع والتنكيل الذي يعيشه الناس، قد أثر على النخبة الحاكمة هناك.
والأمر هنا ليس مرتبطاً باهتمام الطغمة العسكرية الحاكمة بآثار العقوبات على مواطنيها وإضرارها بحياتهم المعيشية، بل هو مرتبط بإدراك الطبقات الغنية التي استفادت من النظام الديكتاتوري أنها ستفقد امتيازاتها إذا استمرت العقوبات، وأن أبواب الغرب والدول الأخرى التي كانت تحول لها استثماراتها وما تنهبه من ثروات قد أقفلت في وجهها، ولاسيما أن تقارير منظمة الشفافية الدولية كانت دائماً تصنف ميانمار باعتبارها إحدى أكثر الدول فساداً في العالم.
ولكن مهما كانت دوافع الحكام والأسباب التي حثتهم على الانفتاح فقد بدأ الناس يستكشفون حقوقهم المستجدة ويجربون الديمقراطية بحذر بالغ، والأمر ليس غريباً بالنظر إلى حالة الترقب والضبابية التي تحملها جل مراحل الانتقال نحو الديمقراطية، هذه المراحل التي تتميز بقدر غير يسير من الفوضى وغموض الرؤية مثلما يحصل في مصر حالياً، والسبب يرجع في جزء منه إلى غياب قواعد محددة تنظم الحياة الجديدة، فضلاً عن انعدام اليقين لدى الناس حول المسؤول الفعلي عن تنفيذ القوانين والمعايير الجديدة، وما إذا كانت بالفعل دخلت حيز التنفيذ ويمكن التصرف بموجبها، أم أن ظلال الاستبداد ما زالت قائمة.
وفي هذا السياق يمكن ملاحظة بعض التغير في صحافة ميانمار التي يبدو أنها صارت تغطي الأحداث والإشكالات التي ما كانت تجرؤ على الاقتراب منها سابقاً، وهو ما يعني اتساع رقعة الحياة المدنية في ميانمار بعيداً عن ممارسات العسكر وأحذيتهم الثقيلة، ولعل أفضل ما يثبت هذا التحول الجاري في البلاد استياء إحدى القرى في ميانمار من الاستخدام المفرط لرمالها من قبل الجيش واستنزافه لتلك الثروة التي تحتاجها، فقرر القرويون بدلاً من الاستكانة إلى الأمر الواقع رفع عريضة إلى السلطات والمطالبة بوقف استغلال الرمال، فما كان من السلطة المحلية إلا أن أوقفت فعلاً نهب رمال القرية، وهذه الاستجابة السريعة من السلطة المحلية لم تكن بسبب الخوف على مصالح الناس، بل خوفاً من أن تنحاز السلطات الأعلى منهم إلى القرويين.
ولكن هذا المناخ من عدم اليقين الذي يجعل الأمور في ميانمار مفتوحة على احتمالات عدة لا يمكنه الاستمرار طويلاً، فالديمقراطية تحكمها قوانين واضحة تفصل بين الحكام والمحكومين وتضع تعاقداً صريحاً ينظم العلاقة بينهما، وفي ميانمار يحتاج الناس إلى معرفة حدود حكم العسكر، والقواعد المتبعة ومن يسهر على احترامها وضمان تنفيذها، وفي لحظة معينة سيكون على الحكومة توضيح تلك القوانين والقواعد الجديدة -سواء في دستور مكتوب، أو غير مكتوب- وحينها فقط سنعرف ما إذا كانت الديمقراطية الجديدة حقيقية، أم مزيفة. وبالموازاة مع مسؤولية السلطة والحكومة يتعين على الناس أن يتعلموا كيف يمارسون الديمقراطية، ذلك أن التحدي الأكبر أمام الديمقراطية الوليدة ليس فقط الاستفادة السريعة من المكتسبات المتحققة واستغلال هامش الحرية المتوفر للتعبير بحرية، بل أيضاً أن تدرب الإنسان على كيفية التصرف كفرد مسؤول والتفكير كشخص حر وليس فقط التحدث بحرية، وبالطبع لا يمكن الوصول إلى هذه الذهنية المتحررة من قيود الماضي وأغلال التجرية الاستبدادية المديدة بسهولة، بلا لابد من بعض الوقت كما تدل على ذلك الاعتداءات الطائفية الأخيرة في ميانمار من قبل البوذيين على المسلمين في ولاية "أركان"، وكما صرحت الزعيمة السياسية، "أونج سان سو كي"، في خطابها المتأخر لنيل جائزة نوبل للسلام الذي دعت فيه جميع الأطراف بدون استثناء إلى تحمل مسؤوليتهم تجاه العنف في البلاد، كما وجهت نداءها إليهم جميعاً للعمل المشترك ليس فقط لوقف المواجهات، بل أيضا لبناء ميانمار الديمقراطية.
ويليام شولتز
المدير التنفيذي السابق لمنظمة الشفافية الدولية، فرع الولايات المتحدة
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"