أمم الرياضة المتحدة
غالباً ما تكون الافتتاحات الأولمبية مبهرة. رأينا على الأقل، من سيدني إلى أثينا إلى بكين فلندن، كيف يندفع الإبداع إلى أقصاه، وكيف يتقاطع الفن والتنوع الثقافي مع الثراء المالي مع التطور التكنولوجي لجعل تلك التظاهرة لحظة عالمية وتاريخية تطبع المكان والزمان. هناك دائماً استعراض للتراث والمجتمعات، فالأمم المضيفة تريد أن تذكر بما قدمته إلى الإنسانية، وبما لا تزال تستطيعه لأنه لا حدود ولا استراحة للحيوية الحضارية التي تتغذى من تجاربها وتراكماتها.
الألعاب الأسترالية افتتحت الألفية الثالثة برسالة مفعمة بالأمل، لكن اليونانية حلّت وسط جنون عالمي وهوس الإرهاب والتطرف وتمكنت من الحفاظ على بارقة الأمل، على رغم أن العالم كان قد أضحى عالمين أو أكثر. الألعاب الصينية كرّست دخول التنين المشهد خارجاً من عزلته، ومستبقاً بأيام الأزمة المالية التي عصفت باليقين الاقتصادي وتركت العديد من الدول مفلساً ومشلولاً. وجاءت الألعاب البريطانية متخبطة بين هواجس الأمن وهموم الفرار من التقلبات اليومية للأسواق. كل الدول التي خاضت مجد تنظيم الأولمبيادات فعلت ذلك مدفوعة بمشاعر العزة والفخار، ولكن في بريطانيا يسمونها "أولمبياد الـ 27 مليار أسترليني" إشارة إلى كلفة تنمية المنطقة الواقعة شرق لندن وكانت مهملة وغير مجهزة لاستقبال الحدث، وليس مؤكداً أن ما أنفق عليها قد أعدّها فعلاً للتفاعل لاحقاً مع بقية العاصمة وفوراتها الاقتصادية. إنها المرة الثالثة التي تستضيف فيها لندن الأولمبياد خلال ما ينيف على القرن، ومع ذلك كانت لديها شكوك وتساؤلات، تقارن نفسها "بما كانت عليه"، وببلدان أخرى استطاعت أن تلمع على المسرح العالمي.
الأولمبياد مناسبة للتذكير بأن الحلقات الخمس المتداخلة لا تقصي أي أمة، وأنها أكثر رحابة واتساعاً من الأمم المتحدة، بل لعلها أكثر نجاعة لأن تكون "متحدة" فعلاً. وعلى رغم تضخم ميزانياتها إلا أنها تبقى أقل كلفة، فلا دمار ولا ضحايا بشرية ولا دماء، وخصوصاً لا نزاعات خارج الملاعب. إنها اختبار دوري لما توصل إليه الجهد الإنساني، مع تفاوت البيئات والظروف والإمكانات، بعيداً عما ابتكرته عقول الشر من وسائل للقتل والإمحاق. صحيح أن الأولمبيادات صارت حكراً على الكبار الأغنياء، إلا أنها مفتوحة على التنافس وعلى طموحات الآخرين. صحيح أيضاً أنها لا تخلو من السياسة، وأن السياسيين هم الذين يتيحونها، إلا أنهم يأتون ويجلسون في الركن المخصص لهم مدركين أنهم ليسوا نجوم المناسبة، فالأضواء كلها مسلطة على أولئك الأبطال والبطلات الذين تتدافع أجيالهم دورة بعد دورة خلافاً لـ"أبطال" السياسة الذين لا يرغبون في مبارحة مقاعدهم إلا بفعل الانتقاضات أو صناديق الاقتراع.
في الافتتاح اللندني كانت مخاطبة للذاكرات، وكان حضور قوي للناس على المسرح، ومن كل المستويات. كان العمال الذين بنوا القرية الأولمبية هم الذين اصطفوا لاستقبال الشعلة، كان الأطفال المعوّقون الذين أنشدوا النشيد الوطني من دون موسيقى مصاحبة. وكان هناك جيمس بوند وبول مكارتني وديفيد بيكهام وتيم بيرنرز لي (مخترع الشبكة العنكبوتية بالـ"دبليو" الثلاثية) وجي. كي. رولينفز مؤلفة "هاري بوتر" ومايك أولدفيلد وراون اتكينسون (مستر بينز) وآخرون ممن شغلوا العقول والمخيلات وأسهموا في صنع "ثقافة" توصف اختصاراً بـ"الغربية". وفي الملعب- المسرح ارتفعت الأبراج ذات المداخن استرجاعاً لرمز الثورة الصناعية، ثم اختفت لتحل مكانها فقرة مفاجئة دفعت فيها مئات الأسرّة البيضاء، كما لو أنها أرادت توجيه تحية لـ"النظام الصحي الوطني" (إن. إتش. إس) الذي تفاخرت به بريطانيا طويلاً، ولا ينفك يخطو من أفول إلى أفول.
الأولمبياد ليس فقط الفوز بالميداليات بل والكفاح من أجل الفوز، وبالأخص إنه الحضور، حيث لا إقصاء ولا "فيتو" إلا في الحالات الاستثنائية. سوريا أوشكت أن تكون واحدة منها جراء العنف الدموي الذي يحكمها. لكن الأولمبيادات ليست للحكومات وإنما هي للناس، للشباب الذي يريد أن يحقق ذاته، للشعوب التي ظلمتها الصراعات الدولية، وللأمم الموجودة ولا ترى ضرورة لدخول محفل الأمم المتحدة. الأولمبياد للجميع طالما أنهم يعيشون على هذه الأرض، الولايات المتحدة تمر في القافلة مثلها مثل جزيرة "فيرجن آيلاند" شبه الدولة التي اشترتها من مستعمرها الدنماركي بخمسة وعشرين مليون دولار، ولفلسطين حضورها فلا إسرائيل ولا اللوبي اليهودي يتحكمان بمملكة الرياضة. يوحي الأولمبياد للحظات، بأن العالم يمكن أن يكون مكاناً أفضل للبشر، لكن عظمة الرياضة وسلميّتها تبقيان أعجز من تغيير قسوة الواقع.